Saturday, May 3, 2008

دراسة نقدية لعبد الحق ميفراني عن بعض روايات جاسم الرصيف

عبدالحق ميفراني

شعرية الحرب وعنف المتخيل

في أعمال جاسم الرصيف الروائية

دراسة

الإهداء

الى الشهيد خالد الأمين..

على أمل لقاء قريب

كي نقرأ الشعر على جسر الدهشة.

توطئة

شكلت رواية "ثلاثاء الأحزان السعيدة" للروائي العراقي جاسم الرصيف <المقيم في أمريكا> إحدى بوابات الدخول لعوالم جاسم الرصيف الروائية، إذ كانت بالنسبة لي مناسبة لإعادة قراءة هذا الجسد العراقي الروائي في وجعه الإنساني، وفي منفاه..

وإذا كان المتن الروائي العراقي عموما قد حقق طفرة نوعية ولو أنها لم تصل للألق الشعري الذي حقق مسارا إنتاجيا غنيا يشكل اليوم إحدى أهم التجارب العربية سواء على المستوى النصي في خصوصيته البنائية والتركيبية أو على مستوى رؤاه والتي تمتلت إحدى أهم مناطق الصدى لكافة التحولات التي مست في العمق القصيدة العربية الحديثة .

إن القراءة المتأنية للمتن الروائي العراقي تكشف عن تشعب مساراته وتعدد خصوصياته وتجاربه وعلى مستويات تقنية الكتابة، مما يجعل من العالم السردي في بلاد الرافدين حقلا غنيا، ومادة مفتوحة على المقاربة والاستقراء والتأويل..

وما عوالم جاسم الرصيف إلا إحدى أهم تجليات هذا الغنى، إذ يشكل هذا المتن الروائي مناسبة لإعادة تمثل أسئلة النص الروائي في مدى قدرتها على إنتاج صيغها، وعبرها تقدم طبيعتها النوعية. إن الاستضافة الكريمة داخل هذه النصوص موضوع دراستنا فتحت لنا هذا المبطن المحفور في ثنايا النصوص والشبيه بالحبل السري، إذ أيا كان أوجه هذا التعدد أيا كانت عناصر وكينونة هذه الصيغ المقترحة..إلا أنها تتضمن اقتراحات لا نهائية من القراءات الممكنة.

ولا نرغب هنا في إعادة التأكيد على أن هذه النصوص في تأصل أنظمتها ولا تجانسيتها تقدم دروسا مفتوحة للنقد كي يعيد حالات الإنتاج بفتح المزيد من الفرضيات، ويسعفنا هذا الاجتهاد النقدي وتعدده في البحث عن قوة اقتراحية إضافية لعل النص الروائي يظل بحيرة مفتوحة هنا وهو يشيد هذه الهوامش اللامتناهية أما نظريات السرد والتي حققت نموا مهما بتعدد مقاربتها واتجاهاتها نمو مراجعها المعرفية.

ثمة مقولة تعمق من خصوصية تناول هذا الكيان المستقل المفتوح، إذ اتساع النص الروائي لأشكال متعددة من الخطابات يزيد من تأكيد مقولة جديدة أن "لا معنى حقيقي" للنص الروائي، وعبر هذا السفر اللانهائي في متن جاسم الرصيف والذي يمتد عبر مرحلة أساسية من تاريخ العراق الحديث، التاريخ السياسي والثقافي والسوسيومجتمعي، ندخل محطات سفر وعبور لدواخل الشخوص ولأمكنة أسطورية، ولعنف الحرب وضحاياها..

ولروايات جاسم الرصيف علاقة وطيدة بالخراب، خراب مادي بما تحمله الكلمة من معنى، وخراب مجازي يبدو من خلاله التحليل النفسي بحيرته المفضلة لما لانكسارات ومرارات الهزيمة من ماعني ودلالات خلفت من الشخوص المركبة، لقد دخلت هذا المتن من نص الهروب "ثلاثاء الأحزان السعيدة" واستوطنت الخراب الأبدي في "أبجدية الموت حبا" و"خط أحمر" و"حجابات الجحيم" و "تراتيل الوأد"..حروب لا تنتهي وانكسارات تتوالى..

إن متن جاسم الرصيف الروائي وجه متعدد لهذا الخراب البلاغي الممتد فينا، ولعل صياغة عناصر هذا الخراب داخل قوالب حكائية كالتي تمثله الروايات الخمس، هو في حد ذاته صدى لصوت إبداعي حين يمثل عصفه المرير داخل ثنايا نصوص روائية تشكل مادة حية لجنس يحمل معرفة إشكالية بامتياز، ولعله انخراط واعي من الروائي جاسم الرصيف في قضايا ظلت روح الحكاية، ماء النص الروائي، صحيح، أن منطق التجاوز للبنى السردية التقليدية بموازاة أسئلة الحداثة أفضى بالنص الروائي الى السير ضد قوانينه المألوفة نحو أفق ينتهك هذا التماسك المألوف في المثن الروائي عموما.

ولعل انخراطنا الاستقرائي لا ينبع هنا- من باب التحديد المنهجي المحض- من تمرس أكاديمي علمي، بقدر ما ينفتح هذا المتن أمامنا على طريق سلكناها عبر بوابة لذة النص أيا كان جنسه، وشجرة أنسابه، سفر ثاني ينضاف الى الأول، ونحن ندرك هنا المأزق النظري " للنظرية " في سقوطها اليوم أمام إشكالات استقرائية لذلك لن نفتح معالم هذا المتن الروائي من بوابة نموذج ونسق متكامل وجوهري بقدر ما تحفزنا إشكالية القراءة على تأكيد سلطة النص أي نص –الرواية كنموذجه هنا- وحمولته المعرفية الفكرية كنسق ثقافي ثانيا، نشدانا منا لهذه الولادة الجديدة لنص جديد أو لنصوص جديدة.

ومن ثمة الاعتراف أن لا حدود لهذه الوساطة التي نمارسها الآن، اللهم شرعية تأويلية تنهض من افتراض محدد هنا هو متن جاسم الرصيف الروائي.

إن البوابة التي فتحتها لنا رواية "ثلاثاء الأحزان السعيدة" هي سفر مزدوج الدلالة –كما أسلفنا- ولأنه سفر مرهون بمحطات عبور ونقطة وصول، فإننا وجدنا أنفسنا كلما انفتح أمامنا عالم روائي آخر إلا وتاهت محطات العبور أما نقطة الوصول فيقينا لم تصل أي تنبيهات على هذه المحطة الأخيرة، إذ يسهم النص الروائي مجددا في تأكيد الانتصارات التي بدأ بها القرن 19 يستكمل مجددا فتوحاته التخييلية ويتسع المتخيل المتعدد الى الحد الذي يتسع معه الدرس النقدي لاستدعاء فرضياته الاستقرائية وهو ما يعمق من فرضيات الإقامة في النصوص الروائية التي تمكن الدرس النقدي من محاورتها وكشف قوانينها.

ويشكل عنصر المنفى محرارا جديدا يعمق من فرضيات القراءة لمتن جاسم الرصيف الروائي، إذ باستثناء روايته "الفصيل الثالث" و"القعر" اللتين صدرتا في بغداد، فإن جل الروايات المتبقية صدرت للروائي جاسم الرصيف وهو مقيم في أمريكا ولا يختلف حال راوينا عن حالة العديد من المبدعين العراقيين شعراء روائيين وفنانين...والذين إما لجؤوا اتجاه فضاء يمارسون فيه حريتهم أو اضطروا للجوء بفعل طبيعة النظام السياسي القائم حينها بالعراق. لذلك تشكل مقولة المنفى عنصرا مركزيا في مقاربة هذا المتن الإبداعي الممتد على خريطة العالم..وعبرها تم التساؤل عن إضافات هذا البعد <مرجع خارجي> للبناء الداخلي للنص، ولا يمكن تشريح هذه اللعنة في علاقات داخلية ضمنية بقدر ما تصلح لإعادة قراءة لتمثل هذه المستويات برؤى المقارن.لكن تفيدنا هذه المقولة في فهم طبيعة بعض مستويات البناء الحكائي عند الروائي جاسم الرصيف وفي بعض رواياته التي هي موضوع الدراسة، لكننا نحترس في جعلها قطب الرحى عبر حضورها في جل المداخل التي بإمكانها تقديم هذه الأعمال وكأنها صدى مباشر لهذه المقولة التي لا زالت تسيل العدد من المداد من خلال النقاش الدائر ..

المغرب – آسفي في يوليوز 2005

حكايات الحرب والحياة..

" كل القصص ممكنة في الحرب"

جاسم الرصيف


"خط أحمر" /1987، "حجابات الجحيم" /1990، "أبجدية الموت حبا"/1991، "تراتيل الوأد" /1992، "ثلاثاء الأحزان السعيدة"/2001. رحلة روائية ممتدة، يخط خلالها الروائي جاسم الرصيف حروبا ومعارك وشخوصا وأحداثا تاريخية بعينها لكنها روايات تنبني على متخيل بما تنتجه لنا هنا كنصوص وبما أن النص " نظام من الترابطات المتعددة والمتنوعة التي تؤلف بنية من الشبكات حيث يأتي المعنى الأدبي متعدد التحديد" فإن الصوت السارد يتأبط النص ليحوله لمجال قصد إبلاغ صوته المفرد خارج أعراف الواقع وأنظمة مقتضياته الاجتماعية.

وللنص الروائي طبيعة خاصة بحكم نوعيته إذ تتخذ صيغته الشمولية المتعددة الأشكال والطرائق سبل المغامرة لتتحول لصيغة مفتوحة على التأويل والمقاربة، وما اتخاذ الرواية لرحلة الاكتشاف اللانهائية إلا دليلا إضافيا لهذا الغور الذي تسلكه داخل الذات والعالم. ومنذ لحظة الانتصار المجازي في القرن 19، أكدت الرواية أنها النوع الذي لا نوع له، إنها شكل مفتوح يتسع لكل شيء ولكل أنواع الخطاب، وعندما نشير هنا لمقولة النص فإن هذا الأمر يقودنا الى موضوع ابستيمولوجي آخر هو فعل القراءة، إذ لا يوجد معنى حقيقي للنص، وكما أكد إيكو فإن التلقي كعملية استباق تقوم على بنى اللغة وعلى موسوعية القارئ الشخصية وتصب في ظاهرة التأويل عند النقطة التي يلتقي فيها قصد الكاتب وقصد الكتاب وقصد القارئ.

ولعل رهان القراءة يكمن في الطريق التي بني فيها النص افتراضاته ويستدعي قارئا نموذجيا، إذ أن كل نص هو إوالية تسعى الى التلقي، وبما أن القراءة غير معنية، تقديرية، لا حدود لها إلا تأويلها النقدي للكتابات فللنص سلطة، سلطته كنص أدبي وكمنتج حامل للمعرفة، لهذا نعود للتأكيد على لا نهائية من القراءات الممكنة، وبما أن نظريات السرد قد حققت تطورا هائلا، إذ تعددت المقاربات والاتجاهات، ولكل منها جذوره المعرفية، فقد أفرز هذا الوضع الاستقرائي إنتاجية المنجز النصي الروائي الذي تشعب الى حد دفع الدرس النقدي الى استدعاء مزيدا من الفرضيات تعتبر القراءة مجالها الأول. إن من بين أهم سمات الرواية النوعية هو انفتاح بنيتها مما يجعلها مفتوحة على خطابات أخرى، ولعل هذا المعطى كفيل بتحديد أولي لمعمارية النص الروائي الجديد.

ونظرا لطبيعة التعدد والتركيب، فيصعب علينا استدعاء درس نقدي بعينه، كدا إطار منهجي ونظري مفرد، قادر أن يكون نموذجيا في دراسة أي متن روائي نموذجي، فإذا كانت الرواية مغامرة ، فإنها تتطلب فعلا استقرائيا في المقابل يحمل حسها في المغامرة والبحث لكن في إطار من التماسك النظري المطلوب وفق رؤية تسعى الى امتلاك المعنى الكلي دون السقوط في تمظهرات تنظيرية تقدم قداستها كجوهر كلي ونهائي للنص الروائي.

وعند قراءتنا للمتن الروائي لجاسم الرصيف، نكتشف هذه اللانهائية من الخصائص التي تميز النص الروائي، مما يستدعي فعلا متعددا ومركبا للقراءة والتأويل، وهنا نكون إزاء مفهوم أولي لعتبات القراءة المقترحة كاقتراح نقدي، فخصوبة النص الروائي عند الروائي العراقي جاسم الرصيف تولد مرجعا تخييليا لا واقع افتراضي لبنيته السردية، بل إننا أمام وقائع متعددة رابطها الانكسار والخيبة ومرآتها بنى سردية توليدية، مما يعمد بالنص الروائي أن يصير عالما منفتحا على تعدد المعنى ، وتماسك الرؤية المؤطرة لفعل الحكي تنذغم كليا كي تكون الرواية هي ذاك الأفق المفتوح على المغامرة.

وارتباط المتن المقدم هنا بنماذجه المذكورة ببنية مفتوحة يؤسس لشعرية تمتح من تيمة الحرب كعنصر مهيمن دال دون إغفال منطق التناظر الملحوظ والذي يغني إنتاجية بنى النص الروائي وانفتاحيته، إن نصوص الروائي جاسم الرصيف تحمل صفتها الأدبية وتعلنها منذ البداية من خلال اعتماد شكل أدبي هو هنا النص الروائي.

الأكيد، أن هناك توافق تام على أن تلقي النص مرهون بانتظارات محددة، للنص القدرة على الإفلات من التاريخ الذي سمح بولادته وحددها ، لأنه لا ينحصر بوظيفة واحدة ، إنه الفعل الغامض الذي يعيش ..

والقول بشعرية الحرب في أعمال جاسم الرصيف الروائية، إجراء يمكننا من تلمس الخصائص النوعية وتحديد القوانين والسمات العامة لنصوص قصد ضبط كيفية تشخيص تيمة الحرب داخل المتن المحدد في الدراسة. وتمثل نصوص جاسم الرصيف الروائية نموذجا متفردا في اتخاذها الحرب "كمرجع مركب تحفيزي كفيل بضبط استراتيجية الكتابة الروائية عموما" وكونها استراتيجية منفتحة فقد حولت المتن الحكائي بما هو "مجموعة أحداث متصلة، فيما بينها الى فعل مركزي يتضمن مقولاته الخاصة" وحين يتم الحديث عن استراتيجية شعرية الحرب في أعمال جاسم الرصيف الروائية، فإننا نكون قد اتجهنا في عودتنا الى اسهامات النظريات والمناهج الحديثة، ومختلف التشكيلات التحليلية والنظرية من منظور اتفاق جدلي بين فعل القراءة والنص، النص كأفق لا نهائي مفتوح، وفعل القراءة بتوظيف لمناهجه النقدية دون التنازل على قواعده وسننه.

نص "خط أحمر" يتناول مأساة مدينة البصرة<جنوب العراق>، "حجابات الجحيم" يتخذ كذريعة معركة بنجوين<شمال العراق>، أما نص "أبجدية الموت حبا" فتفاصيلها ترتبط بالحرب العراقية الايرانية وهي عن تحرير مدينة الفاو<جنوب البصرة>، في نص "تراتيل الوأد" أجواء حرب الخليج الثانية، وهو نص يحفر في مأساة الحرب والحصار، "ثلاثاء الأحزان السعيدة" نص العبور الى المنفى.

يوفر هذا المتن الروائي لجاسم الرصيف قوانينه الخاصة والتي تقدم الحدث بالشكل الذي يتحول معه المحكي الى مقولات مرآوية لعالم خاضع لمنطقه الخاص. وحين يكون الجرذ المقدم هنا كمتن مسح كلي لتاريخ العراق الحديث بما هو بؤرة لعالم جاسم الرصيف الروائي المحكوم بالامتداد، ما دام النص ينتمي الى سياقات ثقافية وإيديولوجية أنتجته دون إغفال لطبيعته الأدبية، إذ تظل سلطة النص قائمة في كل الأحوال وهو ما جعل نروتوب فراي يؤكد يوما ما على أن النص الأدبي "لا يدخل في علاقة مرجعية مع "العالم" فهو ليس تمثيلا لشيء آخر غير ذاته" .

لهذا يخلق النص من داخل منظومته هو لا من الواقع، وبما أننا حددنا سلفا علاقة الاستقراء اللازمة بين فعل القراءة والمتن المقدم هنا كنصوص روائية من خلال تحديد الاستشكال في شعرية الحرب بما يساهم من تلمس للقوانين الداخلية العامة لهذه النصوص في مدى حضور عنصر الحرب كرابط مرجعي مهيمن دون الإقرار بثبات النص، إذ أن حركته قائمة في متخيله الذي ينتج دلالاته وفق هذا النسق المفتوح.

وما دامت القراءة "مسار في فضاء النص" فإن هذه النصوص لا تقدم معنى مفرد في ذاته بقدر انفتاحها على مسارات متعددة لكن ما يهمنا نحن هو تلمس ومعرفة تلك القوانين العامة وتمظهراتها النوعية كوقائع تخييلية من داخل هذه الجدلية الحوارية بين فعل القراءة وهذه النصوص الروائية والمحددة هنا في خمس روايات <مع ملحق برواية سادسة هي "مزاغل الخوف"> حتى لا نعيد إنتاج خطاب أوليا هو هنا نموذج للاستقراء.

إن رغبتنا في الانتقال من التفكير في الخطاب النقدي الى مستوى الاشتغال النصي من خلال المنجز المقدم هنا كنماذج للتحليل، يدفعنا لاستدعاء أدوات التحليل لتفعيل المكونات التخييلية للنص الروائي، وهو ما نسعى أن يتحقق في مستوى أولي كمداخل لعبور بوابات عوالم جاسم الرصيف الروائية.

من سلطة النص الى سلطة المتخيل

شعرية الحرب

4-1/ خط أحمر : مجازات الدوال.

-1-

تقدم النصوص التخييلية المختارة للروائي جاسم الرصيف مفارقات بديهية رسمتها بعناية سيرورة القراءة، إذ تنحصر العودة للمكان بما هو تاريخ آسر للويلات والحروب والمنفى والانكسار، وفق استراتيجية محددة، أساسها صياغة قوالب حكائية تنفتح كليا على المتخيل بما هو حمولة مركبة، ولا تقف النصوص الحكائية المختارة عند قداسة النص الروائي، كنسق مفرد مغلق في ذاته، بل تتجه هذه الاستراتيجية الى تنويع بنائي يتخذ حكيا متوازيا ومتواترا داخل كل بنية نصية.

واتخاذ تيمة الحرب كذريعة شكل إحدى أوجه هذه الخيارات، ما دام النص يحفل من جهة، برؤية بصرية تتعدد دلالاتها الإرشادية والمرتبطة كليا برسم لوحات مكتملة مشهدية لما يمكن أن يتحول لنموذج كتابة الروبورطاج وهنا يكون التخييل الحكائي/Narrative Fiction بما هو سرد متتابع لأحداث متخيلة موازي لخطاب آخر من ضمن خطابات تحفل بها هذه النصوص على تعدد خصوصيتها وخطاباتها بحكم عدم تقيدها بالصيغ الكلاسيكية لانتظام النص الروائي، وتتجه جميع الخطابات المشكلة هنا ضمن صيغ التعدد الى أفق مفتوح يتقاطع مع قدرية الشكل الروائي في أنه دائم التطور والتميز، إذ أن شساعة المتخيل بتمظهراته المعرفية يحيل على سلطة تنبني على كيان سالب هو النص وسلطته الرمزية الأساس، ويسعفنا هذا التدرج في تلمس معالم ووقائع هذا النشدان الأدبي، والذي يجد في كل نص من النصوص المقترحة صيغة محددة لهذا التدرج، ولعلنا حين نقوم بتحليل غايات هذا التحول وأشكاله، يتخذ الاستقراء حينها وجهة مثلى هي عملية انتقال نقدية من صيغة النص الى صيغة ميتانقدية تتجاوزه باستمرار.

ويمكننا أن نستهل بحثنا بتحديد بناءات هذه النصوص كل على حدى، ملتزمين في الأول بسلطة النص باعتباره بؤرة أية قراءة:

-1-

في نص "خط أحمر" الصادر في طبعته الأولى سنة 1987، وفي طبعة ثانية سنة2000. عودة لمأساة مدينة البصرة خلال الحرب العراقية-الايرانية وتحديدا تمتد مأساة المدينة ثماني سنوات كاملة <1980-1988>، والخط الأحمر يحتمل تلوينات دلالية منطلقها تحديد الراوي:

" خط أحمر، تجاوزه يعد مجازفة، مغامرة لا تقبل الخطأ، أما حياة أو موت، خط أحمر هي الحدود الدولية <الأهداف المرسومة> من قبل الطرفين المتحاربين نجاح أو فشل في أوراق الشهادات مر أو لا تمر، قف أو لا تقف، خطر تعليمات، أمور سرية، طرق، مدن ، دمار، حتى لعنة في الخط الأحمر الذي يتركه أي قلم على أي ورقة في أي زمان وفي أي مكان" /ص56.

يظل هذا الخط الأحمر كتحديد مكاني مرتكزا لجميع الأحداث التي تتخللها الرواية، إذ يمتد المحكي بين مدينة البصرة، موطن جميع الشخوص المحورية، والخط الأحمر كرمز خاص حيث الحرب، بجميع تفاصيلها ومآسيها، وأي تجاوز لهذا الخط هو نوع من التنفيس وإنهاء لحالة الحصار.

وبين الحرب وحالة الحصار، يسكن الرعب وقائع النص بكامله:

" رأى تلك الأجسام المعدنية الرمادية اللون وهي تهز الأرض والسماء زراعة الرعب في عيون الناس، الموت آت" /ص36.

إن حالة الرعب الرديفة بالحرب هي أفق خالص للإنمحاء وحالة الموت كحاجز أنطولوجي تقدم نفسها بموازاة اندلاع الحرب وفي الحرب الكل معني، لكن للحروب الكبيرة قاعدتها الأساسية:

" هكذا تبدأ الحروب الكبيرة، وعلى كل القادرين على حمل السلاح أن يتركوا أعمالهم ليتوجهوا الى حيث تجري المعارك"/ص39.

وبما أن المبني الحكائي يتكون من الأحداث نفسها، فإن نص خط أحمر يعيد في خطية تامة رسم المتاهة القدرية/الفجيعة لكل الشخوص، رغم "عنترية" بعض المقاطع إلا أن الأساس يظل موحدا فحالة الحصار والرعب التي تولدها الحرب تؤدي في جميع الحالات الى الموت، هذه اللحظة الأخيرة رغم فجائعيتها إلا أنها تتوحد مع هذه الخطوط الحمر التي تمثل بل تحدد تعاسة البشرية بأجمعها:

" تعاسة البشرية في هذا العصر تحددها الخطوط الحمر لمصالح الدول والشخصيات التي تمتلك النفوذ"/ ص354.

إن تعاسة البشرية لا تكمن في دلالات وجود خط أحمر بقدر ما يمثله هذا التحديد الوهمي الجمركي من رمزية الفناء والعدم، فيتحول الخط الأحمر للعنة ولمرادف حي للموت، والموت هنا لا يحضر ك"كليشي" مجاني بقدر ما تحمل رمزيتها في حمولاتها ودلالاتها، الحرب والموت سيان، وهما منجذبان في إطار علاقة قدرية ورمزية تتحدد في نص "خط أحمر" كما يلي:

"وحده الموت سيد الحكايات، أليست الغاية من الحرب، هي أن يموت، بشكل ما، أي شكل، أحد الأطراف؟؟"/ ص128.

" العالم يتآمر على نفسه" / ص165.

لا تقف هذه اللعبة المجازية على إثارة هامش أكبر من الاستقراء والفهم، وبما أنها مادة حكائية مفتوحة، فإن خطابها يتجه لاستمرارية مفتوحة هي أيضا ومنها يستمد طابعها، فالقول بثنائية الحرب والموت في خط أحمر يستمد مشروعيته بمدى حضوره في السرد، وكيف قدم هذا الراوي عبره مجازات حضورها داخل خطاب سردي اتخذ أشكالا وصيغ مختلفة على طبيعة الخطاب الروائي العربي، إذ وازت "خط أحمر" بين خطابات حكائية مرة تتخذ من "عبدالله علي" كمادة حكائية تنكشف بتوازي حضوري مع "زهير الطالب"، "حميد عبيد" ، "عادل حسن"، أربع بنيات سردية تتاوزى جميعها كروابط تحضر من خلال منطق وتفاصيل الحدث المقدم هنا كتجلي للخطاب السردي .

نص "خط أحمر" نص انكساري ومتشظي بحكم المرجع القهري لجميع شخوصه، وعوالمه، إلا أن المرجع العام المؤطر لهذه البنى يظل هو عنصر الوحدة التي تشمل مرجع أولي آخر هو بنية الحرب/والموت:

· "ظل محتارا، أية قصة يصدق؟ كل القصص ممكنة في الحرب"/ص331.

· " كم من الآمال خيبتها الحرب" / ص376.

"فالآمال" المجهضة هنا هي مآل جماعي لجميع الشخوص، وتتمظهر دلاليا من خلال:

· الموت

· الاختفاء

· الفشل

· العجز الجنسي

· الفقدان

· الرعب

· القهر

· الجوع...

متواليات لا نهائية لصور الحرب والموت ترخي بظلالها على حيوات جميع الشخوص التي رغم ظاهرها الذي يشير الى رغبة الصمود والتحدي إلا أنها لا تكتسب شرعية الحضور في السرد إلا من خلال قدرها الفجائعي والذي تتعايش معه ومن خلاله وعبره، مادامت كل البنيات الحكائية ممكنة التشكل في الحرب.

فقدرة الحرب على صنع الكائن القهري جدلية متاحة من خلال منظومة السلطة القهرية والتي لا تميز بين فعل الحرب وفعل القتل، لكن بوقائع تخطها لغة الدم والموت. وفي أدق التفاصيل إما عبر البحر أو الجو يوجه السارد كائنه وفعله القهري الى خط الموت المرادف لخط أحمر حد الحرب وجذعها.

إن قدرة نص "خط أحمر" على إنتاج الدلالة وتوليدها قوي في اتجاه التأكيد على هذا الأفق التخييلي الذي يتسع الى الحد الذي يجعل من نص "خط أحمر" بؤرة انتقالية مفتوحة لبناء هذه الحمولات التي ليست بالضرورة ميالة ومرتبطة بمنطق الأحداث ولا بالوصف ولا بالحوارات، إذ تتولد قراءات ثانية متعددة بدورها في مسار هذا الأفق المفتوح بما هو سلطة ثانية ، لكن الأهم، في قدرتها على تحديد مسافة الحوار الممكنة بين عوالم المتخيل بما هو سلطة ثانية وفعل الكتابة، وهنا نكون أـمام أزمنة متعددة ليس المهم هنا الشكل الذي تتخده السمات الموجهة للحكي في نص "خط أحمر" ولكن الأهم ماذا تصنع لنا الدوال بنظامها المفتوح والمتخيل هو بيتها المكشوف.

وعندما أشرنا الى التقنية الممارسة في جميع نصوصنا المختارة القائمة بنيتها السردية على التجاور والتوازي أي انتقال النص من حكاية لأخرى من خلال تقطيع/رابط عبارة على توالي أسماء الشخوص فلأنها الهدف ، إذ لم يكن التأكيد على رغبة النصوص انتهاك تماسكها المألوف التقليدي بل رغبتها في الكشف عن أفق لشعرية النص حتى يظل رابطا ببنيته الانفتاحية، وحين يكون متخيله هو هذه العناصر والميكانيزمات التي تحتاج للدرس النقدي كي يعيد إنتاج فرضياتها، فحينها يمكننا الحديث عن قدرة فعل القراءة على صياغة علاقة حوارية مع النص وهو هنا النص الروائي بمثنه موضوع الدراسة.

4-2/ حجابات الجحيم : عراء النكسة.

-2-

نص "حجابات الجحيم" الصادر في طبعته الأولى سنة 1988،وفي طبعة ثانية سنة2000. هو عودة لمعركة "بنجوين" التي جرت أثناء الحرب العراقية-الإيرانية<1980-1988>، الحرب التي خلفت أكثر من 40 ألف قتيل خلال 40 يوم، ويتقاطع هذا النص الروائي مع سابقه "خط أحمر" في انطلاقه من نفس زمن الحرب أي الحرب العراقية-الإيرانية، وإذا كان نص "خط أحمر" تتداعى أحداثه من خلال اختيار مدينة البصرة كمكان مفرد أمكن من خلاله النص الروائي أن يكشف حالة الحصار ويبرز علاقة الموت بالحرب، ف"حجابات الجحيم" أكثر تمثلا له للحرب من خلال سرد يظل مرجعه الأول والأخير وقائع معركة "بنجوين" ويحدد ثيمته المركزية من خلال الحرب=الجحيم، أما خلفيته فتنهض عبر إشارة السارد:

" إذن هو الموت، السباق الرهيب:أن تقتل أو تقتل" /ص137.

وبما أن الموت هو "واقع" افتراضي حصري في نص "خط أحمر"، فإنه يتحول في نص "حجابات الجحيم" الى "واقع" ضمني صريح لا لما سيحدث، بل لما حدث ولما قدر له أن يحدث، وتنهض دلالات الحياة في نص "حجابات الجحيم" على يقين خطابها وبنيات النص والتي تجعل السارد العالم يعود في كل مرة للتأكيد على قدرة تجاوز هذا الجحيم بالحياة وقوة تمثلها كقيمة روحية وكملاذ للتجاوز رغم أن هذا الإصرار يحدث مرارا خلال أحلك اللحظات والتي تصل فيها فظاعات الجحيم الى أقسى صورها:

" أنا لن أموت، بيقين كل قوانين العلم والتأريخ، الذي أعرفه أني عثرت على هذا اليقين في داخلي بعد أن شاركت في ثلاث معارك متوالية" /ص25.

" حالة الاتزال الغريبة بين قيمتي الموت والحياة كانت تتلبس أعماقه، طلقات المدافع، الطائرات، خنادق الرفاق، الخوذ، الشمس، كل شيء، كان يذكره بأن يختار إحدى القيمتين: الحياة أم الموت؟؟" /ص124.

" هل يعرف أولئك الجنود، أن ثمة جمالا ما في هذه الحياة؟؟" /ص215.

إن ما يبدو كيقين يتحول الى شك، وسؤال وجودي عميق، إذ الحرب بوابة جحيم مفتوحة لهذه الأسئلة الوجودية والتي تستكمل المشهد عبر ثنائيته الحاضرة: أن الحرب والجحيم هما مآل كل هؤلاء، بما فيهم الذين يتساءلون عن قيمة الحياة ويحاولون التمسك بتلابيبها فحتى الرقص يتحول الى تمظهر دلالي آخر لهذه التيمة المحورية:

"مارس دبكة الشيخاني كطائر ذبيح في ذلك العيد" /ص17.

لذلك يتساءل السارد في شك يقيني :

"لا يمكن للمرء أن يحب أرضا قد يموت عليها دون سبب" /ص63.

نص "حجابات الجحيم" يميزه رؤيته البصرية البانورامية في التقاط تفاصيل هذا الجحيم من خلال تمظهراته الكلية سواء الدلالية والتركيبية أو اللفظية، إذ تصبغ تفاصيل المحكي بعوالم الحرب في أدق تفاصيلها ووقائعها، جاعلة النص كخطاب مكتوب حاملا في ثنايا سياقه الخاص، وضعف تجليه الزمني، يثقله حاضره الذي يعيش تحت وطأة حرب تبدأ كي تنتهي بترسيم جحيمها.

وينهض نص "حجابات الجحيم" من لعبة تناص حوارية مع نص ملحمي تراثي يتمثل في "ملحمة جلجامش" جلجامش التي يتقاطع مع سارد نص "حجابات الجحيم" في أن طبيعته : " محبة الآلام والأحزان" /ص8-9. ويأخذ هذا الحضور طابعا دلاليا بحكم أن النص الروائي يجعله خطابا موازيا لكنه إشراقي في فاعليته الإنذماجية إن على مستوى تقاطع بنائتهما والتي لن يكون معها نص "جلجامش" إلا حامل لبؤر المتخيل الساكنة في ثنايا النص المرجع. أو على مستوىت تصور الشخوص الميالة في استجابتها القدرية نحو حقيقة الحياة وكنه الموت.

عموما، يلتقي سارد "حجابات الجحيم" بأسطورته داخل مبناه الحكائي وهو يدرك قدرتها على صياغة سلطة المتخيل المأمولة من هكذا توظيف تبئيري، وبالعودة لرؤية السارد المشهدية والتي هي هنا شبيهة بالعين الراصدة لتفاصيل الحدث، يقدم نص "حجابات الجحيم" تدقيقا وتوصيفا لمعالم هذا الجحيم من خلال الحفر في تمظهرات الحرب إن على المستوى الإنساني أو في طبيعتها الفجائعية، ويمكننا التدليل عبر هذه المقاطع الحكائية:

· "شم الدماء، كنت قادرا على شم دماء رفاقي الأحياء في لحظات التجلي، وكنت أسمع الأشياء نداء الأحجار والأشجار والغيوم، الورود، الخوذ، الشظايا.." /ص20.

· " ليالي الحرب ثقيلة، حافلة بالارتياب والانتظار الممل لحدث ما رهيب، قد يحل في أية لحظة" /ص63.

· " كانت الشمس تلسعهم بحرارتها ويمتزج الغبار بعرقهم، صابغا ملابسهم بلون الأرض" /ص112.

· " أول ما شممت رائحة الدماء، رائحة اللحم الميت، والأرض المحترقة، البارود، ورائحة الرفاق الأحياء، ملأت سمعي نداءات رهيبة، كل شيء كان يئن متوجعا، الصخور، الأدغال، والأشجار المحترقة، الجثث الساكنة..الرفاق، الأسلحة، الخنادق، وربما حتى الفضاء" /ص271.

· " الثواني تمر ببطء، ثوان من سكون الحرب الرهيب، قصف وقصف مضاد، هدير رتيب، رجال صامتون في خنادقهم، أياديهم تشد على أسلحتهم بقلق، رجال قادمون ليقتلوا" /ص194.

ينكشف جحيم الحجابات على عالم سوداوي لغته الدم والقتل، وفي سرد لتفاصيل هذا الجحيم، تأخذ الحرب جميع قيم البشاعة، وتتلبس بها، إن قدرة السارد في التقاط هذه التفاصيل يرجع أساسا الى توظيف تقنية المسح الكلي للفضاء، مع ما يرافق هذا المعطى من قدرة على توظيف الحرب/الجحيم كأوالية دلالية كي تنزع الصورة على أبشع تفاصيلها.. وكي ترصد العين بشاعة وفظاعة ما يوم هنا كحرب، وقد استعان السرد هنا بالعديد من الخطابات الأخرى، لعل الروبورطاج أهمها، إذ تساعد هذه الكتابة/الجافة على رصد التفاصيل بقدرة بالغة وعميقة دون السماح بإمكانية التدخل المباشر للتعليق، لكن سارد نص "حجابات الجحيم" يعود في مقامات حكائية آخرى لكي يوثق من فعل الحضور تاركا لنفسه مشروعية التساؤل على هذه الفظاعات التي يتحول الجحيم لجامعها الكلي، إذ تتخذ الحرب/الجحيم شكلا مناسبا لإعادة كتابة سيرة هذا الجحيم..

" عندما انحسرت أمواج الجحيم خلفت على الأرض صور الموت البشعة وأثار النار" /ص278.

" عاقبة جحيم الأرض زادت عن 40 ألف قتيل تفسخت أوائلها.." /ص291.

وفي إعادة كتابة هذه السيرة يرسم السارد لمقولات المتخيل بما هو حامل لخطابات تختفي وراء منطق السرد وتراتبيته:

· " ما الذي تفعله الإنسانية في خنادق الدم، بين رصاصتين؟" /ص218.

· " ما الجحيم إن لم يكن تلك الأصابع المطلية بالدم، ونتف الأجساد البشرية الممزقة؟ ما الجحيم إن لم يكن ما يجري على الآن ؟" يا إلهي " /ص245.

· " من دفع هؤلاء الى الموت؟ أي عالم هذا أي عصر أبله أي خواء " /ص256.

· " أردت أن أعثر على إجابة لذلك السؤال الكبير : لماذا ؟ ولكن يبدو ألا مكان للفلاسفة والمتأملين في الخطوط الأمامية من جبهة القتال" /ص275.

· " لماذا تموت الابتسامات قبل أن تصل الشفاه في الحرب؟" /ص282.

· " يا له من زمن قذر " /ص327.

تشي هذه المقاطع الحكائية بمقولاتها على الحس الفجائعي لمتخيل الخطاب الروائي، إذ تؤطر فصولا كاملة من جحيم حرب امتدت أربعين يوما لتخلف أزيد من 40 ألف قتيل، ويعتمد متخيل النص الروائي على شهادات الجحيم من خلال طرائق السرد، ويحضر الطابع الخطي لمجرى الخطاب حينما يكون منكبا على تقديم تفاصيل الحرب، لكنه ما يلبث أن يتغير هذا المجرى فاتحا المجال لأصوات أخرى كي تؤسس خطابها القائم على تعرية فكر الهزيمة والانتكاسة بكل حمولاتها.

4-3/ أبجدية الموت حبا: مسارات المحو.

-3-

" أبجدية الموت حبا" بهذا النص تكتمل ثلاثية جاسم الرصيف الروائية حول الحرب العراقية-الإيرانية، فهذا النص الصادر في طبعته الأولى سنة 1990، يشير في عتبته الداخلية الأولية أن معركة "تحرير" مدينة الفاو دامت 72 ساعة فقط، لكن خسائرها تجاوزت 52 ألف قتيل. ويتضمن نصين متجاورين: أنا و هي، يتناوبان في مقاطعها الحكائية، ولكل منهما حربه، رغم أنها نفس الحرب، إلا أن "أنا" ساردها، و"هي" الحرب بصوتها المركب، فهي الحرب وهي المكان، وهي الفاو، وهي بغداد، وهي أيضا الذاكرة.

نص "أبجدية الموت حبا" حكاية مجند ينادى عليه ولأول مرة كي يشارك في حرب ضارية، مجند يقدمه السارد منذ الوهلة الأولى:

" ترعبني الأماكن المظلمة، أرى في أغوارها السود أشباحا رهيبة الامتدادات تتربص بي، وربما بالآخرين، الذين أحبهم خاصة، ولم أشعر بالخجل من رعبي هذا، الذي اعترفت به لأمي وأبي وأصدقائي القليلين الذين كانوا يرصدون رعبي من الظلام، والدماء، والشرطة، والأنوف الكبيرة، والصرخات واللصوص، والعناكب، ورائحة الأماكن المغلقة" /ص5.

فهذه التركيبة السيكولوجية، كفيلة بجعلنا نكتشف المآل الذي زج بالعديدين داخله، حيث الوطن في خلفية السرد، النص الروائي يعتمد الى حد كبير على خطية الحدث وتشكله، لكنه يقاطع دائما بسرد موازي هو حكاية "هي" التي تلج مباشرة جحيمها دون الحاجة الى إعادة بناء معبر آخر، فتكسير خطية سرد "انا" تنبع من ضرورة انبعاث نص "هي" بما هو "تقاطع" حكائي يتخذ نفس العتبات للدخول لعوالم الجحيم، حيث الحرب تحمل هذه المرة دلالة القتل، الحرب=القتل..

"غصت الخنادق بالخوذ، تلاحقت الانفجارات، تجدر وجه الأرض بالحفر وتبقعت السماء بأشجار الدخان الخرافية وامتزجت رائحة البحر برائحة البارود، واختفت الطيور من السماء، عندما دخلت الفاو الخالية من البشر" /ص14.

تقدم المادتان الحكائيتان، صورة الحرب في تفاصيلها المآساوية، حيث لا تشم إلا "رائحة الدم"، وصيغ نص "أنا" بالشكل الذي يقدم شهادة على جميع من قاتلوا لتحرير أراضيهم، الشهادة التي يختلط فيها البطولي بالرعب والخوف والقتل، خصوصا عندما يكون المجند في حرب، يطلق فيها رصاصته الأولى، حرب يقتل فيها ولأول مرة شخصا آخر بجانبه، وهو أيضا يمتلك نفس نية القتل إتجاهه، لذلك اعتبرت رواية "أبجدية الموت حبا" محكومة بثنائية الحرب والقتل كدلالة موحدة لمعالم ورؤية النص ككل.

هي تجل خطابي لما يتشكل من توالي أحداث مترابطة، وتتحدد الصيغ السردية التي يقدم بها الحكي عبر منظور تجاوري إذ يقع الإخبار السردي من خلال صيغة تناوبية بين نصين، وهما صيغتان في الأساس، فالصوت الأول يحمل من منظوره العالم والمهيمن تفاصيل الحكاية من خلال فعل تشاركي، بينما يوحد الصوت الثاني "هي" أنماط خطابية متعددة كي يقدم الحكاية عبر أشكال خطابية وصيغ يمتهن فيها الصوت أصواتا متعددة، بل حتى الخطاب الروائي العجائبي يساهم في تشييد معمارية السرد عبر توازيه مع خطابات ثانوية، كي يتجه في الأخير الىت تخصيب آليات الخطاب الروائي وفعاليته التواصلية، لذلك يبدو النص التخييلي أقرب الى التأويل والمقاربة ما دام مفتوحا على إخبار بعدي يتشكل من خلال النص المرجع الأساس وهنا تتسع لعبة الدوال كي تلتحم في الأخير أوالية سلطة النص المتخيل.

وبالعودة لنص "أبجدية الموت حبا" تنكشف مقولة الحرب والقتل من بعض المقاطع الحكائية التي اخترناها كي تحدد أفق النص واختياراته إذ يسهب السارد في تأطير هذه القيمة، رغم أن رابطة بين نص "أنا" و "هي" بالشكل الذي يمكن أن تحاصر تناقضات رؤيته للعالم ولعل الالتزام بسلطة النص كفيل بإظهار هذه الاستراتيجية وأفقها..

· " طرحوه أرضا وظلوا يضربونه ببنادقهم حتى انبثقت من جسده ينابيع الدم، وضعوه ببساطة أمام الحفارة الآلية الضخمة التي مرت فوق جسمه فسمعت صوت عظامه وهي تتحطم بضجة خافتة مرعبة" /ص115.

· "عندما ضغطت على الزناد أغمضت عيني ولكني قتلته..وشعرت بالمرض بعد ذلك، وربما هذه هي الحرب، ليست مهمة تلك المشاعر، المهم هل يريد عدوك أـن يقتلك أم لا، ربما هذه هي الحرب، وربما أنا مخطئ، ولكني أحارب الآن، ستفهم بعد المعركة الأولى لك أن لا قيمة للمشاعر الإنسانية في الحرب، القيمة الوحيدة هي عدد الأموات، كلما كثروا، كلما اقتربت المعركة من نهايتها، وإن خرجت منها فستجد أن مشاعرك قد اعتراها الخراب إن كنت تمتلك قلبا حقيقيا، ستمرض؟" /ص122.

لا معنى للحرب خارج قيمة القتل، ويؤطر السارد هذا الفعل كبنية ثاوية صريحة في قدرتها على تحديد طبيعة الحرب كممارسة حيث اللاإنساني، وحتى في التفاصيل الأكثر بشاعة، ينهض هذا الفعل القدري بمعمارية المبنى الحكائي، ليحدد معالم عنف المتخيل في النص الروائي" أبجدية الموت حبا".

وإذا كان النص عموما يتجه أفقه لتعرية مأساة شخوص تشارك كلها في توليد دلالات هذا العنف، فإن قدرة المتخيل على الإفلات من منطق التاريخانية يسهم في الكشف على سلطته هو، بتمظهراته المعرفية العميقة والتي تقدم تصورا نقديا للعالم، حيث للحياة قيمتها الجوهرية، وحيث الكائن مرهون نهاية المطاف لإيديولوجيات صدقها وقعدها وحيث الحقيقة نهائية، لكنها تعبر مسارات المحو والمتجلية هنا في قتل الآخر كي يضمن الطرف الثاني البقاء.

ثمة بنية عميقة أخرى في نص "أبجدية الموت حبا" تتمثل في رؤية الوطن، "الوطن الأمين" إذ تسهم قيم الحرية بجميع تمظهراتها في إعادة ربط مفهوم الكائن بحقيقته وبعالمه، لكن هذه المرة، مغلفة بالقيم النبيلة التي لا يمثل هواجس القتل بصورها المأساوية إلا خلفية لهذا الأفق الخالص للحياة.

إن البورتريه الذي يرسمه سارد "هي" أبلغ على توصيف هذا المآل إذ يعيد رتق الذاكرة من خلال إرشاد بليغ لمختلف نتوءاتها:

" ومرت بذاكرتي قوافل التتر والمغول والفرس والأتراك والغجر منذ أكثر من ألفي عام، ومرت سعالي المقابر والسحالي والقردة والأفاعي، ومر كتاب الأحراز والتعاويذ وباعة الأسنان والأدوية المغشوشة ولصوص الدجاج وأساطيل الانكليز" /ص184.

"وفي كل ثانية، كانت جذوري توغل في رحم الوطن الأمين من أجل نسغ يمد عزم الرجال، حتى وضع أول مقاتل منهم علم العراق بين كفي معلنا أني حرة" /ص200.

المقطع الثاني به يختتم النص الروائي، وهو تأكيد مباشر على ما ذهبنا إليه سلفا، أن "هي" صوت متعدد لهذا الوطن/المتخيل، وهي الأرض الحرة المباركة التي تدفن أوجاعها رغم رائحة الدم ولعنة الجحيم، رغم القتل البشع لمختلف القيم، ولكافة تفاصيل الإنساني، ناهيك على مجازات اشتغال مقولة "الجنوب" في النص، والتي ترشد لتلك المقولة:

" دعني أغني أشعر أني سأموت هناك وأشار نحو الجنوب" /ص92.

والجنوب هنا مقبرة مفتوحة لجميع من ماتوا، وهو أيضا سكن تخييلي استعاري لصوت النص المفرد، هناك، حيث كل التراجيديات تنكتب وتكتب تفاصيلها. إذن، نص "أبجدية الموت حبا" استكمال لثلاثية جاسم الرصيف الروائية حول الحرب العراقية-الإيرانية، والتي ابتدأت بنص "خط أحمر" وامتدت بنص "حجابات الجحيم" النصوص الروائية الثالث حفر في أوجاعها، وإعادة كتابة لسيرها من رؤية إبداعية تحاول تلمس ثيمة الحرب بتمظهراتها الدلالية والشعرية، رغم أن قدرة هذه النصوص على تقعيد كياناتها، إلا أنها تكشف قوانينها وسننها الداخلية وفي ذلك شعريتها، ويسعفنا المثن الحكائي في رصد منطق السلط الجمالية والأدبية التي تنازعته، وهنا يمكننا كشف الدلالات الحضور، حضور الحرب وتدرجها من الموت، الى الجحيم الى القتل من خلال هذه الترسيمة:



الحـرب


* "خط أحمر" الموت

* " حجابات الجحيم" الجحيم

* " أبجدية الموت حبا" القتل

ومادام النص الروائي هو فعل لغوي بامتياز، ومن ثمة قدرته على ترسيم خصوصيته وانفتاحه على كافة الخطابات الأخرى بل واحتوائها بالشكل الذي يتواصل صوت النصوص الثلاث المقدمة هنا كنموذج لتمظهرات انتقال سلطة النص الى المتخيل الى أصوات متعددة عبر مركزية الصوت الأول من خلال تقبله التفاعل مع خطابات أخرى، وبعيدا عن مقولات باختين للخطاب فإننا هنا نشير لأنظمة خطاب منتجة نظامها المعرفي والفكري من داخل منظور النظام الاجتماعي المحدد في الرؤية الباختينية.

إن مركزية الذات هنا منفتحة، لذلك عندما نحدد تمظهرات شعرية الحرب داخل هذه الثلاثية نكشف أنساقا ثلاثا هي على التوالي:

· الموت

· الجحيم

· القتل

بالتالي تدرج هذه الأنساق نحو بناء نظامها المفاهيمي عبر تشكل الدلالة وإخصابها داخل سلطة النص، لتتحول الى ممارسة توليدية محكومة بتشكيلات نسقية تقدم تصورا مهما للعالم من خلال نقد عالم لغوي سابق مقدم هنا كمبنى حكائي بمنجزاته اللفظية، ونحن هنا نتمسك بمنطق الدليل البارتي الذي يؤكد على أن النص لا يخط إلا التباسات بحكم قدرته الرمزية الذي يحتويه، لكن نسق المتخيل نسق موازي رديف كفيل بتحديد معالم ما يخطه النص من التباسات.

إن المقولات الثلاث: الموت-الجحيم-القتل، لا تتحدد بمعيارية دلائلية، بقدر تجميعهم المكثف لمعارفنا التي يمكننا استقاؤها من توليداتهم الثلاث، ولعل الفعل السلبي والفجائعي الذي يمثلونه كفيل بتكريس رؤية سوداوية لفظاعة الكائن وشبح العالم الذي يعيشه بما يحتمل من عمق انشطاري لبنية عامة ندعوها بالتشظي. مصرحين بقصور النص رغم انبثاقه من مرجعيات داعمة أهمها التاريخ بما يحفل به من وقائع قد يكون النص الروائي وليس النص التاريخي هو ملتقطها.

وتشكل الحرب العراقية-الإيرانية مادة حية لمختلف الخطابات التي قاربتها عن قرب باختلاف أنواع الخطابات الموظفة، لكن النص الروائي نص تخييلي أساسا لا ينبني عالمه على وقائع تاريخية بعينها وليس هدفه إعادة كتابة الوقائع/الواقع، بل إنه قادر على خلق واقعه التخييلي الكفيل بجعله فعالية أدبية "منفتحة" ومتفق على ميثاقه السردي.

إن واقعة العبور للمقولات الثلاث، هي عبور من نسق لفظي الى آخر ذو طبيعة تشابكية، وحين نحكم هذه المقولات ببنية التشظي والمعبر عنها هنا كبنية نسقية عالمة وجامعة، فإن ثلاثية جاسم الرصيف محكومة أولا وأخيرا، بانكسارها الداخلي، والنصوص الثلاث المكونة لهذه الثلاثية تمظهر آخر لحداثة النص الروائي في ـابطه لمفاهيم من قبل السرد التجاوري، وتقنية الأجزاء، وتداخل الخطابات، الميتانصية...ومفاهيم أخرى تجعل من تجربة الروائي جاسم الرصيف أو على الأقل نصوصه الروائية نموذجا لتمظهر شعرية الحرب كناظم مفاهيمي مفتوح على بنية ثاوية عميقة هي التشظي: تشظي الكائن، وتشظي العالم، بكل حمولاته ورؤاه، لكن سلطة متخيله هي الحاملة لرؤاه، لأنها أفقه الخالص الذي ترسمه النصوص جميعها.

عنف المتخيل

5-1/ تراتيل الوأد : بلاغة الخواء.


-1-

نص " تراتيل الوأد" صدر في طبعة أولى سنة 1992، وفي طبعة ثانية منقحة سنة 2000، الرواية تحفر في مأساة الحرب والحصار داخل المدينة والقرية أيام حرب الخليج الثانية، وترصد هذا المنحى ابتداء من الخميس 17 كانون الثاني 1991 اليوم الأول للحرب الى الأربعاء اليوم الثاني والأربعون للحرب 27 شباط 1991، 42 يوما تعاق زمني تؤطره الرواية من خلال أربع محكيات متجاورة ومتشابكة:

1- زيدان خلف

2- جواد خلف

3- أم نهاد

4- أبو الأبرد القشعام خلف

الشخوص الأربع تعيش حالة الحرب والحصار كل بطريقته، اللهم حضور أم نهاد كمشارك في بناء الحدث مع زيدان خلف، فإن الجميع متلبس الى حد كبير بفعل الحكي، تعبر مع متلقي ضمني جسد النص الروائي وتبني أحداثه، وعلى خلاف الثلاثية السابقة يركز نص "تراتيل الوأد" على ما تخلفه الحرب والحصار على الناس من خلال رصد لحالة الرعب والشك كقيمتين تتلبسهما نفوس وأفئدة شخوص النص، لكن يحتفظ النص هذه المرة بتقنية خطابية أساسية هي مزجه لخطابات متعددة تحضر فيها اليوميات، التقرير الصحفي...

ويقدم نص "تراتيل الوأد" مأساة الحصار والحرب من خلال حياة عائلة خلف والمتكونة من الأب أبو الأبرد القشعام، وزيدان خلف، وجواد خلف وأم نهاد بابنيها. ورغم أن كل منهم يعيش ماساته منفردا بعيدا عن الآخر ، وحتى في اللقاء بينهم، إلا أن النص يتخذ من الشخوص الأربعة حكايات متجاورة، كل واحدة تملك بنائها الخاص، بل يذهب النص الى اختلاق تقنية تناوب الحكي الخطي، رغم أن بنية أبو الأبرد القشعام خلف تتخذ في الكثير من الأحيان صيغة التقرير الصحفي عما يحدث دون أن ننسى ربط أحداثها بما يمثله كاسترجاعات حفرية في الذاكرة، وخطاب السخرية لكنه "تنكيت" معرفي، إذ يصبغ النقد اللاذع والتهكم البادي صيغة تعدد الأصوات والمنذغمة في تقديم صوت سارد "أبو الأبرد".

لكننا نتمثل متخيل النص الروائي من خلال إحدى مقاطعه الحكائية الأكثر تدليلا على عمق وعنف هذا المتخيل، يقول السارد:

" سأقول للآتين، ما زال المطر الوهمي يعصف في رأسي "والآتون، هم نسل الفجيعة والتخلي"..وما أنصفت ليلاي أهلي، حينما جاء الغزاة ولاحقوني مثل ظلي.." /زيدان خلف-ص300.

شخصية زيدان خلف أقرب في كاريزمياتها الى طبقة المثقفين، إذ تتخذ حواراتها عمقا دلاليا لافتا، فهي إحدى أوجه الأكثر قدرة على تمثل المأساة وقرائتها، وحضورها بهذا الشكل قصدي، ما دام السارد يحملها أفق متخيل النص، بل إنها تبني مع أم نهاد عشيقته وخليلته اتفاقا لا واعيا في جعل حالات الحصار والحرب عتبة للسرد في انتظام تواصله المستمر وأفقا لهذا التخييل الحكائي=Narrative fiction في قدرته على التعليق والوصف عبر مونولوجات تتعدد في كثافتها من الطول الى القصر:

" فكرت أن الرجال في بلادي مشاريع قتال جاهزة للموت منذ الأزل، ومآسي فقدانهم في الحروب التي توارثناها جيلا بعد جيل لو لم نمتلك النفط لما تآمروا ضدنا ولا حاربونا " /أم نهاد-ص246.

" سالت نفسي عن الفجائع التي احتفظت بها ذاكرة الأرض في وطني، مذ تفتحت عيون الأعداء عليه، ولكن لا أحدا لم يرد علي غير طعم الفجيعة المر الذي كنت قد أدمنته في فمي مذ بدأت الحرب" / أم نهاد-ص254.

وعكس زيدان خلف، يبدو جواد خلف نموذجا خالصا للعراقي التائه الذي لا يكثرت بخلق شعارات لا يصدقها، فهو يحاول قدر الإمكان التأقلم مع حياته الجديدة موظف دون عمل، دون راتب، حالة بؤس وجوع تعيشها معه أسرته الى الحد الذي يضطر الى الذهاب لقمامة الأغنياء قصد إعالة وإطعام عائلته، شخصية جواد خلف مركبة، تائهة، هي إحدى أهم صور حالات الحصار ومأساة الحرب.

" كم عدد المسروقين منا؟ كم عدد المخدوعين؟ كم هو عدد المخادعين؟ من خدع من في هذا العالم الضيق؟" /ص161.

في سؤالها تتلبس شخصية جواد خلف تفاصيل المأساة، وفي بعض المقاطع الحكائية تمسي خلالها الشخصية إحدى صور المأساة الأكثر تدليلا على واقعها ، حالة التشرد والجوع والقلق والضياع والتسول المبطن من فضالات الآخرين.

إنها عنوان مصغر لمجتمع بكامله، يستسلم لمأساته وهو في حالة شك وارتياب من الغد، ويسعفنا هذا التحديد في قراءة عنف المتخيل في نص "تراتيل الوأد" ، وما دمنا قد أشرنا في مدخلنا السابق لاستحالة تحديد معنى محدد للنص، أو لتمثيله المرجعي، وما دامت للنص استراتيجيات متعددة للقراءة، فإن اللجوء للمتخيل ونسقه كبناء وصيغ رؤية كفيل بقراءة التمظهرات الخلفية وحتى الأفقية لمعمارية هذه الرؤية الثاوية والتي تحفر خلالها المأساة كتجلي معرفي لحالة الحرب والحصار فاعليتها وقوتها الإخصابية.

ومادام عنف المتخيل تدليل مباشر على قوة النص وديناميته، ونص "تراتيل الوأد" نموذج مفرد لهذه الخاصية بل على عكس النصوص السابقة، يقدم لنا جاسم الرصيف من خلال هذا النص تراجيدية وطن عبر انغماس تفاصيل المحكي في أثون المأساة العراقية.

ورغم اتكاء النص على تقنية خاصة في التضمين إذ ما تلبث أن نكتشف أن الحكاية الأساس تتفرع الى حكايات أخرى رابطها الانتماء الجنسي والعائلي لنفس الوطن، وجميعهم يتمثلون "حاضرهم" المبهم بإحساس خاص:

· "شعور مبهم يراودني وربما أمنية صغيرة، أن هذه الحرب بعيدة، بعيدة. ولكن الانفجار الرابع كان أقرب مما كنت أتمنى" /ص6.

· "بدأت الحرب إذن كيف ستنتهي؟ " /ص6.

· " بدأت الحرب ...نسوا أن للمدن حروبها، إن لم تكن سببا لكل الحروب" /ص10.

ومع بداية الحرب، نلج لمتاهات الحصار بما فيها حركة الناس المقيدة بغل "الواقع" ، "واقع" جديد، إذ تصارع الشخوص الخواء الذي خلفته المأساة في جسد الوطن والكائن. وهي أيضا تصارع بشاعة الرعب في أدق تفاصيله:

· "جسد شابة يحتضن طفلا رضيعا كان يصرخ وقد تلوث هو الآخر بالدماء" /ص16-17.

· " وضعت كفي اليمنى على الأرض، كي أنهض عنها، فتلمست شيئا دبقا فكرت أنه مجرد طين أو زبالة في الزقاق..كانت ذراع طفل مجزوزة من الكتف" /ص262.

· "فقد زقاقنا ضجة الأطفال والباعة والمذياع والغسيل، تعرى من نكهة الوجود البشري" /ص178.

عموما يقدم نص "تراتيل الوأد" مأساة الحرب في تفاصيلها الإنسانية والوجودية مع ما يرافق هذا التوظيف من بلاغة النص الروائي في انفتاح أفقه على عنف المتخيل، وحين يصر "زيدان خلف" على دخول بحيرة التطهر من دماثة الصور وما يرافق هذا التطهر من حالات نفسية مركبة، فإن مجاز حضور المثقف في النص الروائي يعمق من استراتيجية هذا المتخيل البليغ.

5-2/ ثلاثاء الأحزان السعيد: لعنة اللاعودة.

-2-

صدرت رواية "ثلاثاء الأحزان السعيدة" سنة 2001، وإذا كان النص يعتمد على رصد تسجيلي لثيمة الحرب إلا أنه ينطلق منها كمعطى يرتبط بالحصار ومخلفاته على جيل بكامله اختار الهروب الى المنفى، وفي اختيار المنفى تتعدد الأسباب، إذ يختلط الايديولوجي بالقمع، وبالجوع وبالخوف وحتى بالاستبداد. لكن، الجامع لهؤلاء يظل هو الخروج من شرنقة الحصار وقد حافظ النص الروائي على توزيعه "الأوركسترالي" البنائي، إذ تتجاور الحكايات حاملة عناوين شخوصها :

1- أنا

2- ملاذ

3- الدكتور

4- العميد الركن

وكلها حالات تحدد مصير فعلها الحكائي من خلال حالة الخواء/البياض/الصفر:

" البياض ، ربما هو الصفر، الذي ينتهي أو يبتدئ، عنده كل شيء..." /ص68.

نص "ثلاثاء الأحزان السعيدة" رحلة هروب طويلة، يؤثث مسارها رؤية طفل "مجنون" من كركوك الى السليمانية، من العدم الى العدم، هروب من بطش واستبداد غير معلن، هروب أيضا من حصار "جائر" لا يميز فيه الكائن من السلطة، هروب من حصار ومتابعة هذه الأخيرة من عيونها التي لا تنام ، وأمام هذا العنف الدلالي ينكشف عنف رمزي، عنف الكائن أمام خلاصه، وعنف المتخيل ، متخيل النص "ملاذ" ثاني لأفق المتخيل الحكائي.

تنهض تيمة النص الأساسية على مقولة الحصار، ولا تحضر كجوهر فني فقط ولا كبؤرة إخصابية، بل إن جل المبنى الحكائي ينمو وفق ما تؤطره هذه الثيمة المحورية عبر وجوه دلالية تكمن في الرعب والخوف والانغلاق، جل الشخوص سلبية ميالة في اعتبار وضعها المأساوي يتخذ أفقا قدريا، أما الذين اختاروا المنفى والهروب في وضع قائم، فأمسوا محاصرين بحصار مزدوج، إذ يتحول فعل الهروب الى مخاطرة محفوفة بالعدم، وهي مطية لإعادة تحيين الأسئلة عن الوطن، الأمل، الحياة والايديولوجيا...

في مقطع حكائي تقول ساردة "ملاذ":

" أنا قطرة دم، مسافرة نحو المجهول، تريد أن تتحرر من نفسها، أرخص ما في وجودنا الآن هو :الإنسان" /ص7.

هذا الإنسان أمسى حاملا للبوس دلالي جديد بفعل ما عاشه من ويلات الحرب والمأساة:

" ستجد <إنسانا> بكامله في وضع القرفصاء جالسا منذ آلاف السنين قد يكون جدك أو جدي، أنت تعرف من يدري إنه التاريخ" /ص12.

في نص "ثلاثاء الأحزان السعيدة" تأكيد للازمنية الزمن، الزمن مستمر في البياض، في لحظة الصفر، والكائن أشبه بتاريخ متوقف، أي اللاتاريخ:

"زمن يفر نحو اللاشيء، أو كل شيء، لا أدري..." /ص8.

لذلك يتخذ التجلي الزمني في هذا النص الروائي تمظهرا عدميا، رغم الانقطاع الذي تثيره انتقال الزمن من لحظة الى أخرى إلا أنه عدمي، بحكم أن جل مكونات الخطاب الروائي لا تستمد فاعليتها منه، بقدر ما تتخذ طبيعة التجلي الخطابي/ أسلوب الهيمنة.

لأن السارد المتكلف بفعل إرسال الحكي، لا يهمه توالي زمنية الأحداث بقدر ما يعري مفارقات هذا التوالي المكثف في أمكنة بعينها هي محطات عبور منها وإليها، ولعلنا نستوعب هذه اللحظة المجازية من خلال زمن القصة المتعدد الأبعاد لكن من مرجع مفرد هو أفق وهمي /خلاص لكنه موقوف التنفيذ، فهل هناك خطية مأمولة من الزمن الآخر المتجلي في زمن خطاب نص "ثلاثاء الأحزان السعيدة"؟؟؟؟..

" ما أثقل خوفنا أينما حللنا في هذا البلد

الى أين نفر من أرواحنا التي تشوهت

هذا هو السؤال

ألسنا المهووسين بخلق الأنبياء التافهين في هذا العصر الرديء..

ألسنا المجلودين الذين اخترعنا جلادينا

يا إلهي..." /ص151.

" أن نبقى أبدا قادمين من متاهة الى متاهة " /ص152.

" الى متى نبقى مطرودين من رحمة الله، ورحمة هذا العالم؟" /ص163.

إذا كانت الحرب تولد المآسي، فهي أيضا تولد الحصار والمتاهات، وللمتاهة قدرة على جعل نص "ثلاثاء الأحزان السعيدة" يشي بعنف متخيله، عنف يولده النص بسننه وقوانينه الداخلية، بل إنه البورتريه الخالص والمفرد لهذه الدائرة الحلزونية التي قدمها السارد، عبر جعل مسار الرحلة يتخذ هذه الحلقة الفارغة والمميتة..حيث اللانهائي، وحيث المكان "السليمانية" يتحول من بوابة عبور للخلاص الى نقطة بداية العودة الى جحيم المأساة والحصار، الحصار الذي يتساءل الطفل المجنون ببلاغة " متى ينتهي الحصار؟؟" /ص27. ينتهي حيث اللاعودة.

عبر هذا النص ومن خلاله، يواصل مثن جاسم الرصيف الروائي الحفر في مأساة الحرب، لكن هذا النص يحفل فيه هذا الحفر بسخرية لاذعة سوداء، إذ أمام هذا الخراب الكلي لا يجد الروائي إلا تجريح الذات من خلال تشريح حقيقي للخراب :

"كل هذا الخراب في هذا الزمن اللعين الذي حولنا الى نابشي قبور وبائعي عظام بشرية ولا أدري ماذا بعد" /ص271.

" يا هذا العالم الملعون بنا ، الى متى نرثاك ونرثى أنفسنا، الى متى نرثاك؟؟" /ص219-220.

وصرخة اللعنة هاته، تجمل بالكامل ما نود أن نقدمه كأفق لنصي "تراتيل الوأد" و"ثلاثاء الأحزان السعيدة" أفق عنف المتخيل، بما هو حامل لبلاغة هذا الخراب وهذا الوأد، عنف المتخيل كأحد أهم مقومات وسنن "شعرية الحرب" الجامعة كوحدة تخييلية رئيسية جعلناها بوابة قراءة هذا المتن الروائي مسترشدين بالنص أولا وأخيرا في فتح معالم التأويل الممكنة. ومتأبطين بحس تخليقي synthesis نستقرأ دلالات هذا الخطاب الروائي بتعدد اتجاهات وتحليل هذا الخطاب نفسه، مع ما يفتحه هذا المتن من بنيات تجاورية حينا وتناظرية حينا آخر.

خاصيات الخطاب الروائي

6-1/ دينامية النص وسؤال التجريب.

6-2/ شعرية الحرب ومفارقات التاريخ

6-3/ البياضات وبلاغة الخطاب.


6-1/ دينامية النص وسؤال التجريب.

إذا كان النص الروائي أساسا هو عمل سرد تخييلي، فإن مغامرة الكتابة الروائية تظل مفتوحة على كافة الجغرافيات، لا مرجع تستند عليه إلا عالمها الذي تبنيه وتشكله . والمثن المقدم هنا كنموذج تجلي واضح لهذا الاعتبار الذي يتخذ الكتابة الروائية عبورا اتجاه عوالم المأساة والانكسار.

إذ يمكن الإشارة الى فضاءات تخييلية مفتوحة تتخذ من نفس النص بوابة تجليها، ما دامت النصوص جميعها محكومة بهذا المحكي المتوازي..ويعبر هذا المتخيل الروائي دلالاته، ومعانيه، فاتحا أفقا مركبا لدرجات القراءة والاستقراء. وما ذريعة الحرب والحصار إلا طريقا مفتوحا أمام هذا المتخيل كي يعري مفارقاته وصولا لكشف مجازات هذين الذريعتين واللتين يكونان قطب الرحى لثيمات المهيمنة في المثن. مستثمرا بلاغة هذا المتخيل نفسه كي يخلق رمزيته ويعمق من دينامية النص الروائي نفسه.

وهذه الدينامية التي يفتحها مثن جاسم الرصيف جزء من انشطار الخطاب الروائي عن أحاديته الكلاسيكية المسكونة بمرجع الواقعي التماثلي، إذ تقدم هذه النصوص الروائية في عنف متخيلها إخصابا للكتابة الروائية وأفقا متعددا يكسر حدود رمزية الجنس وينتج بلاغة الالتباس، ولعل ثيمتي الحرب والحصار أفرزا لنا سرودا استطاعت أن تخلق تحولها من خلال مقولة الإخصاب التي يكسبها لها المتخيل بعنفه وتركيبته.

إن المثن الروائي المقدم هنا كنموذج للتحليل يفي لهذه السيرورة ولهذا التحول على مستوى الخطاب رغم أن بعض النصوص تتجاوز في مستويات هذا الهتك وهذا العنف، فنص "أبجدية الموت حبا" يشي مقطعه الحكائي "أنا" بتدرج خطي على مستوى نمو السرد المحكي لكنه في المقابل يواجه بتوازي نص "هي" الذي يمتح من الحلم والعجائبي مما يجعل النص النهائي محمولا على هذه الثنائية وفي ذلك قدرة الخطاب الروائي على ضخ خصوصياته بدينامية الإخصاب والذي يجعل من عنف المتخيل تمظهرا معرفيا لسلطة المتخيل المفتوح، ليس متخيلا باشلاريا وهو بالنفسي اللاكاني، إنه متخيل مركب بمأساوية ما يبنيه النص الروائي من محكي ومن تحرير للغة الكتابة الروائية، لكن بأفق المتخيل الإبداعي الذي استطاع صهر مجازات التخييل وصياغات العوالم التي بنيها، وما ذريعتي الحرب والحصار إلا طريق سيار ومعبر الى حالة الالتباس والتي تحمل في ثناياها متعة القراءة ولذتها.

تتنوع صيغ الحكي وتتعدد في متن جاسم الرصيف الروائي، ولا تمثل هذه التجربة الروائية خصوصية بالمفرد في الجسد الروائي العراقي والعربي، بقدر ما تخص نفسها داخل مجرى متحول بانزياحات تميزها عن باقي التجارب وتتعدد صيغ هذا الانزياح بتعدد طبيعة هذا الخطاب. إذ حتى الحديث عن إحدى أوجه هذه الخاصية والمتمثل في تكسير خطية السرد نموذجا يحيلنا في المتن المقدم الى خطاب بقدر ما ينوع مادته الحكائية بقدر ما يخلق بصيغه الجديدة عمودية تخييلية تتجاوز بنية الخطاب الروائي التقليدي، لكنها في نفس الوقت تقترح صيغا بديلة ، لكن أهم خاصية تظل مهيمنة على النماذج المقدمة هي تقنية تسيير مادة الحكي، إذ تنبع مادة الاشتغال في إنتاجها لهذا الخطاب الجديد في مقولتي التجاور والتناوب alternance علما بأن نسق الحكي المقدم هنا يعتمد على روابط سياقية تحافظ على مستويات تدرج الخطاب، وتنامي الفعل الحكائي، قد يتجه هذا المعطى الى خلق انزياح أعم يمكن هذا التناوب الى التحول الى بناءات تجاورية كل وحدة حكائية داخلها تبني خطابها بشكل مستقل، ويمكننا التدليل على ذلك من خلال النماذج المقترحة للتحليل :

أبجدية الموت حبا : نجد <>: ينهض كل فعل حكائي بصيغه الخاصة، إذ أننا نجابه بخطابين متجاورين لكن، كل منهما رواية قائمة الذات تنتج خطابها الواحد، قد تتقاطع في تيمة الحرب والمكان، ويمكننا تمثل هذه الخاصية من خلال هذا النموذج الذي نسوقه كي نستقرأ طبيعة هذا التوظيف:

** نموذج 1 :

أنا ..

" انطرحت في القاعة المظلمة، كل شيء كان يشع سخونة لا تطاق، الأجساد البشرية لرفاقي، التي انطرحت الى جوار بعضها كأسماك قتيلة، والجدران المبرقشة بذكريات جنود سكنوا القاعة قبلنا، والهواء المندفع من والى النوافذ المفتوحة التي كنت أرى من خلالها تلك النجوم القلقة المحتشدة، التي لم أرها قبل أن أغادر المدينة.<...>وعندما ركزت نظري على نجمة بدا ضياؤها أكثر تباتا من بقية النجوم، شعرت بانها تسافر وحيدة الى جهة ما، وهي مكانها بثبات أزلي، مذهب، جعلني أنشد أكثر فأكثر بالسماء.

هي..

تقدمت شمالا، عبر الممرات السبخة والنهيرات وبساتين النخيل، كان علي أن أرى <علي باشا>، أمير البصرة، الذي يحمل مصالح الدولة العثمانية بشاربين معقوقين ومجموعة من الجند القساة، وكنت مسكونة بقراري، أن أرى شاربي الأمير في السنة السادسة والعشرين من القرن السابع عشر../ص10-11.

** نموذج 2 :< ثلاثاء الأحزان السعيدة>

*أنا*

" علمتني <...> هكذا، أرفع كفي، مفتوحة الأصابع كلها، وأصبع واحد مفتوح من الكف الأخرى، ستة فيعرفون<...> ستة كان ذلك منذ زمن طويل<...>.

*الدكتور*

" نفخ دخان تبغه الرخيص في ماعون المقبلات ثم ابتلع آخره قبل أن يهمس بحماس مدروس، إنها ضربة العمر‼‼ أبو سلام لن يحتاج بعدها الى فلوس ما دمنا أحياء أي والله"

*العميد الركن*

" <القجاغجي> يسبقهما بخطوتين أوثلاث دائما، حمل أثقل الحقائب، شابا كان ، وسيما جدا لذا لم يثق الرجل أن <هذا> يمكن أن يكون مهربا ناجحا"

*ملاذ*

"ذو ختم البريد، على وجنتيه، كان مصرا على تدخين بشراهة، أغمض عينيه نصف إغماضة، كان محتارا بين أن يرى السيطرة الأخيرة أو لا يراها .." / ص<8---18>.

إن خاصية التجريب التي ينهض عليها الخطاب الروائي في تجربة جاسم الرصيف، تسمح ليس فقط في انزياح هذه التجربة عن سياقها السردي التقليدي، بل في تكسير قوالبها السردية الداخلية في كل مرة، مما يجعل النص الروائي مشبعا بروح الإخصاب والتوليد والدينامية.

ولعل هذا الحس التجريبي هو الذي سمح للخطاب الروائي بأن يظل مرهونا بمنجزه النصي إذ كلما حدد خاصيات محددة إلا وتجاوزها معتمدا مقولة التحول، ونحاول الإمساك بهذا الفعل الداخلي عبر تمثلاتنا لأهم خاصيات الخطاب الروائي كما تقدمه النماذج النصية المقدمة.

يتميز الحكي بنحته لقالب جديد وهو ما يتم توليد إحدى خاصيات الخطاب الروائي، إذ يتضمن الخطاب الروائي في نصوص "أبجدية الموت حبا"، "ثلاثاء الأحزان السعيدة"، "تراتيل الوأد"، "خط أحمر"، "حجابات الجحيم" خطابات بالجمع وليس خطابا بالمفرد، إذ ما إن يبتدئ الأول حتى يقطع بالثاني الذي ما يلبث أن ينتهي ليعود للأول وهكذا دواليك. إن بنية التجاور تسمح لنا باستيعاب النص لكم من المحكيات التي تقدم عن طريق التناوب، لكن أهم ما يميز هذه التقنية هي انفتاحها على نوع الحكي كان قد وسمه تودوروف بالتتابع enchaînement ، لكنه لا يمثل خاصية نوعية موحدة إذ كانت هذه الخاصية قابلة لخطاب نص "تراتيل الوأد" بحكم تسلسل مختلف القصص المحكية، ما إن تنتهي الأولى حتى تبدأ الثانية، فإن نصوصا أخرى تخضع لبنية جديدة هي بنية التناوب وعبرها يتم حكي قصص في آن واحد عن طريق التناوب، ويعتبر نص "أبجدية الموت حبا" نموذجا خالصا لهذه البنية المتكونة من:

1- أنا

2- هي

أما "ثلاثاء الأحزان السعيدة" فنسقها التناوبي مختلف يجعلها خاضعة لمستويات أخرى فرضتها طبيعة البناء والذي يميزها مقطع نص أنا" الحامل لصوت الطفل المجنون والذي يعتبر حاملا للحكي، ومن ثمة حضور عنصر الترابط والمعبر عنه في التقاء الشخوص في "السليمانية" كأفق نهائي لتدرج الحكي، وسواء كانت بنية التناوب أو التتابع هي المهيمنة، فإن بنية التجاور المقدمة هي خاصية عميقة تحدد طبيعة الخطاب الروائي وينتظم وفقها فكلا الخطابات الواردة تسهم في بناء خطاب أوحد محكوم بالانفتاح والتعدد وهو ما نمثله من خلال هذه الترسيمة:

Text Box: خطاب أنا

تبقى أن عملية توزيع هذا التتابع يتخذ أشكالا وصيغا متعددة، حسب النصوص المقترحة، فنص "ثلاثاء الأحزان السعيدة" يتميز بتتابع أجزاء الخطاب الأربع مقطعة الى النهاية. وعبر بنية التجاور، تتناوب هذه الخطابات مشكلة أربع روايات تتيح لنا في النهاية نص "ثلاثاء الأحزان السعيدة"، مع تميز لمقطع خطاب "أنا" صوت الطفل المجنون، إذ تسهم هذه النواة الحكائية في تكسير عملية التناوب وانتظامها حسب ورودها:

· ملاذ – أنا – الدكتور – أنا – العميد الركن – أنا – ملاذ – أنا – الدكتور – أنا – العميد الركن...

عكس نص "أبجدية الموت حبا" التي تتخذ خلالها هذه البنية انتظاما محددا قد يتغير في لحظات محددة تسمح بتكرار وحدة الخطاب ونمثل لذلك ب :

أنا = ا

هي = ب

ويمكن ترسيم هذا التدرج حسب التسلسل التالي:

· ا – ب – ا – ب – ا – ب...

وعندما ننطلق من المقطع الحكائي "أ" وننتهي، يبدأ المقطع الحكائي "ب" وسرعان ما ينتهي كي يستكمل "أ" استمراريته على مستوى تدرج وانتقال الحكي، ونفس الشيء يقع مع "ب" ، وعملية التتابع التي تحصل هنا تلزم بمعطى جديد هو استقلالية المقطعين وكأننا إزاء نصين روائيين ينموان معا في نص روائي مفرد، لكن عندما نراجع أنساق الحكي المقدمة هنا من خلال نصين متتابعين، يشكل كل منهما رواية قائمة بذاتها، ويتوزع النص عبر فصول تنتهي بالفصل الخامس عشر ومن خلاله يحضر هذا التتابع بشكل وصيغ قصدية أخرى إذ ما إن تنتهي وحدة "أنا" حتى تلي وحدة "هي" لكن وفق تدرج يقدم على هذه الشاكلة:

هي – هي أيضا – هي ...

وعكس باقي النصوص المقدمة في التحليل، يميز "أبجدية الموت حبا" بمفارقة الوحدتين الحكائيتين أنا وهي، فإذا كانت أنا توهم بحدث ينمو منتظم بخطيته الكلاسيكية، فإن هي محفوفة ببلاغة العجائبي والفنطاستيكي مما يجعل من هذه الوحدة ذات استيهامات تخييلية أكثر قوة.

وفي وحدة أنا يتجلى هيمنة لصيغة خطاب واحدة، تجعل السرد محمولا عبر صوت سارد متحكم في صيغه، من خلال حكاية مجند يشارك في الحرب التي تنتهي بموته. وتتنوع حالات التجاور الحكائي في المتن المدروس، فنص "تراتيل الوأد" هو أساسا حاملا لعناوين شخوصه فجواد خلف، زيدان خلف، أم نهاد، أبو الأبرد ينتمون لعائلة واحدة وهو الخيط الناظم لتناوب هذه الوحدات لكن النص يحافظ على شبه استقلالية لخطابات هذه الوحدات حتى في لحظة لقاء زيدان خلف بأم نهاد، ولقاء الاثنين بالأب أبو الأبرد، إذ يظل الخطاب خاضعا لبنية التجاور وتحرص هذه الوحدات على انفتاحها حتى النهاية، مما يشير الى طابع الانسجام الداخلي الحاضر بقوة بين مستويات هذا التداول السردي، ومن العائلة الى وحدة المكان في نص "خط أحمر" فالوحدات :

· عبدالله علي

· زهير الطالب

· حميد عبيد

· عادل حسن

ينتمون جميعا الى مدينة البصرة، لكن بنية التجاور الحكائي تسلسل وفق نفس التدرج السابق مع حفاظ النص على وحدة الخطاب الكلي وانتظام سياقه.

عموما تتداخل هذه الخطابات في إطار علاقة تناوبية وتجاورية، لكنها تنتظم في سياقات تسمح لبنية الخطاب الموحد أن يتدرج في إطار الترابط النسقي مما يؤشر للحمة النص الداخلية، وسلطة المتخيل وعنفه في توسيع هامش دينامية الخطاب الروائي في تجربة الرصيف الروائية التي اتخذت بنية الحرب كرؤية سوداوية مأساوية عالمها الروائي. ممتدة في حفريتها وتاريخيتها مما أهل هذه النصوص وعوالمها أن تشكل مادة حكائية مفتوحة بشعريتها وخصوصيات خطابها.

إن نزوع هذا المتن في خاصيته البنائية يرتبط بنسق خاص ينزع نحو شعرنة الحرب، ليس بمعطى شكلاني عابر بل يرتبط أساسا برؤية عميقة للنص اتجاه العالم، مما يسمح بالحديث عن إمكانيات مفتوحة للخطاب السردي والذي هو "نتاج الرواية" أساسا. ومن هذا التقاطع الجلي، ينزاح المتخيل الحكائي في متن جاسم الرصيف الى فاعليته ويتمظهر ببنائه القادر على استغوار الذاكرة والرؤى، لذلك يستمد المتخيل استقلاليته في كونه يخلق سلطته الخاصة وحقيقته الخاصة والتي يستمد مرجعها من قوانينها النصية التخييلية/الداخلية لا من واقع مكشوف شفاف، إذ يستمد المتخيل قوته من خرقه وقوة انزياحاته، وعلاقة بهذا الموضوع، يستشعرنا المثن الروائي بتعدد أنماط تأويله الشيء الذي يجعله دائما أنماطا مفتوحة محكومة كياناتها بالحلول في كيانات أخرى ..

6-2/ -شعرية الحرب ومفارقات التاريخ

حين يعبر النص الروائي من مأساة الحرب الى الحصار الى القتل الى المنفى الى الهروب، فإنه عبور تراجيدي مفتوح على المطلق بما يفتحه المنفى من هامش الاغتراب والسؤال والهوية\، وحينها نعود مع بنية الوقائع الى التساؤل عن انشداد النص الروائي الى الموقف الكفيل بضمان استقلاليته ونسقه التأويلي. ونتساءل هنا مع الناقد عبدالفتاح الحجمري هل نكتب شيئا خارج التاريخ؟ لا بوصفه عالما قائما بل عالما ممكنا، إذ في إطار العلاقة التي "يقيمها هذا الأخير مع الحقيقة السياقية، سواء أكانت لفيفا من الأحداث والوقائع، أو أطوارا من حياة ماضية يكتسب فيها التاريخ معنى".

تتحايل نصوص جاسم الرصيف على هذا السياق إذ رغم اغترافها من وقائع بعينها :

· معركة بنجوين

· حصار البصرة

· حرب الخليج

· الحصار الدولي على العراق...

إلا أنها تخلق سياقا موازيا بانفتاح آليات الكتابة الروائية على خصوصية التفاعل النصي بمادته الحكائية القائمة بانفتاحها على المتخيل، وحتى التوظيف الحواري لمختلف الخطابات ورغم الاسترشادات الغالبة مثلا في "تراتيل الوأد" في خطاب أبو الأبرد القشعام نموذجا أو نص "هي" في "أبجدية الموت حبا" إلا أننا نظل مسكونين ببناء الدلالات التخييلية الروائية أكثر من استعادة ذاكرة تاريخية بعينها وحتى وإن مثلت بهذا الشكل فإنها تظل تاريخية متخيلة.

تخلق مساراتها الإيهامية ويزيدها توظيف الخطاب الاستيهامي العجائبي <أبجدية الموت حبا/هي> شحنة إضافية كي تظل مستوطنة لمتخيلها فقط، بل إن عنف هذا المتخيل يزيد الملمح السردي في هذه النصوص الروائية أحقية وامتلاكا أكبر لمشروعية وحقيقتها التخييلية، ونمثل لهذا الحضور بجرذ لبعض المقاطع الحكائية:

· تراتيل الوأد:

- "هذا التل الصغير الذي ندفن على هامته أمواتنا، شهد أجيالا من البكاء على من رحلوا الى الأبد، صاحب الوداعات الساخنة النهائية، يحتضن خمسة وسبعين جثة لشهداء سقطوا في الحرب الماضية، قصفنا <تل أبيب> بالصواريخ، ودارت فناجين القهوة ثانية<...>قتل <الصهاينة> اليوم شابة فلسطينية مع طفلها الرضيع في <نابلس>وهي تتفرج على مظاهرة فلسطينية تؤيد العراق، القشعام لا يمرض، يموت فجأة في السماء.." /ص20.

- " بتنا نمرض كثيرا وما عادت وصفات البدو الرحل ولا الغجر تفيدنا<...> أسقطت مقاوماتنا الأرضية طائرة مراقبة الكترونية أمريكية تحمل أربعة عشر فنيا من نوع <أي سي 130>، أطفالكم يرتعبون إذا سمعوا إطلاق الرصاص.." /ص121.

- " ستة وأربعون ألف غارة ألقت الطائرات علينا فيها ما يعادل ثلاث قنابل ذرية مثل تلك التي ألقوها على اليابان، والآن يا صديقي القديم، لا يمكن أن أسلمك<العزيزة> بسهولة، سأقاتلك من أجلها.." /ص163.

- " كانوا يسيرون خلف دسيستهم حاملين السلاح، أرملا كنت، تضرب الفحولة جسدي بسياط من نار، وكانوا يتعثرون خلفها رعبا، وأعلنت الدول <الكبرى> أنها ما زالت تريد الحرب، وكانوا يريدون قتلي ثأرا <للشرف>.." /ص223.

· أبجدية الموت حبا:

- " كنا قد استأمنا في جذوره الغائرة بعيدا، بعيدا، تواريخ حيواتنا السرية والعلنية آملين أن تتوقف الحرب في يوم ما لنستعيد تأريخا تأريخا.." /ص18.

- "كاد <الباش جاويش> يموت من فرط سعادته عندما وصله خبر من والي البصرة الجديد<علي رضا باشا>.."/ص125.

- " كان ذلك بعد تسع وخمسين سنة من مجزرة الطاعون، وسبع وعشرين سنة مذ انتصب عمود <البنكله> العجيب في فضاء الفاو، عندما رست السفينة الحربية الانجليزية<سفنكس> في الميناء.." /ص161.

- " وظل <الجاويش> يردد تلك الكلمات مستغربا وهو يعود<...> منذ زمن بعيد الى مكان ما خوفا عليها من الحرب العالمية الأولى التي لم يدر <الجاويش> أنها اشتعلت منذ سنتين.." /ص195.

· ثلاثاء الأحزان السعيدة:

- " قصفوا بغداد تقصف الآن وهي مثقلة بقيود دولية ومحلية من كل صنف ولون يا لها من <بغداد> كتب لها أن تعيش حربا بين حرب وحرب، ومأساة بين مأساة ومأساة <...> هانحن نتخلى عن بطاقة من بطاقاتنا الشخصية ليمتطي التأريخ التأريخ دون لجام " /ص267.

- " في الأعياد الرديئة<*> الأحياء وحدهم يتحدثون<*> الأحياء وحدهم<...><*> <*> التأريخ<*>.." /ص274.

- " من جرف ذكرياتنا القديمة تأكل الذكريات الجديدة، ونحن نتخلى، آسفين، عند مفترقات أحلامنا، عن بطاقاتنا المثيرة للارتياب، حيث تمتطي التواريخ، التواريخ، نحو ملاذ آخر، دون لجام يا له من تاريخ يسطره المهربون وقطاع الطرق" /ص274.

يعتبر الناقد أحمد فرشوخ أن التاريخ يظل له الحضور الغامر في النص الروائي، مادام النص الروائي متورط في شكل ما بسياقاته متجذر في اللاوعي المعرفي لمحيطه، لكن يبقى السؤال هو كيف يحضر هذا التاريخ؟؟ كيف يشخص داخل النص؟؟ كيف نميزه عن باقي التواريخ الأخرى؟؟ وكيف يقترن بمتخيل النص الروائي؟؟ بل وكيف ينصهر بالذاكرة وما علاقته بالتأويل؟؟؟

يقدم مثن جاسم الرصيف عبر النمذجات المقدمة فكرة أساسية تندرج في مسار التحول الذي عرفه المثن الروائي والخطاب الروائي العربي إن على مستوى مادة الحكي، أو طرائق السرد التي تشعبت، حيث سمح هذا الانتقال بمركزية الذات وترابطها وتاريخانياتها باعتبارها موضوعا من موضوعات الحكي، ويتقاطع هذا المنحى مع طبيعة تمظهر هذه العلاقة في الخطاب الروائي، إذ تنكشف هذه العلاقة من خلال لعبة تناصية حوارية مع نص <جلجامش> / "حجابات الجحيم" أو من خلال تمثل وجه تراث سردي هو التاريخ من خلال أحداث بعينها حروب، حصار،...ويمتد هذا المسار الى فعل حفري يغترف من معمار التراث الى معمار النص بتعاليه.

إن النماذج الروائية المقدمة هنا كنموذج للقراءة لا تمثل سياقا نموذجيا للمقاربة التاريخية للأدب الروائي بقدر ما تنفتح هذه النصوص بخطابها الذي تبنيه على تشخيصات تاريخية محددة، بحكم أنها تفرض علينا التفكير في ترابطاتها المعرفية والناتجة عن انفتاحها الداخلي لمضمرات إشارية بعينها..

فالمعيار الذي تبنيه هذه النصوص راجع أساسا الى المسافات الجمالية التي تخلقها، مع ما يوازي هذا المبدأ من تورط الحكاية أساسا ومتخيلها من انصهار بمعناه التأويلي للتاريخ. إذ نؤكد مع الناقد عبدالفتاح الحجمري أننا "لا نكتب شيئا خارج التاريخ" رغم إقرارنا أن هذا المتن الروائي لا نستطيع تبويبه ضمن خانة "رواية تاريخية" بحكم أـن هاجس هذا المتن يظل "حاضره" ومتخيله. حاضره الذي يخلقه ويشكله داخل معمار النص، و"واقعه" التخييلي الحكائي، ضمن سياق يؤثثه الزمن الحكائي لكن كتخييل وإيهام لا كتاريخ فقط.

ومن هنا نستطيع مقاربة هذا التقاطع في وظائف حضور صوت الطفل المجنون في "ثلاثاء الأحزان السعيدة" والذي يرى في الأحياء تاريخ يحكى، كما يهمنا أن نستدعي هنا ما أشارت إليه الناقدة مي أحمد في مقاربتها لأحد روايات جاسم الرصيف فحين سألت عن الروائي كان الرد:

" كان طالبا غاية في المشاكسات مع المدرسين وحتى الطلاب، ربما لأنه ألإبن المدلل كونه الذكر الوحيد من بين خمس أخوات أصغر منه ، وربما لأسباب أخرى قد يمر ذكرها لاحقا ..لم تنقطع علاقتهم بالقرية قط ، ولحد ألآن ، وهذه القرية التي تبعد عن ( الموصل ) ثلاثين كيلومترا في أبعد بيوتها عن المدينة ، وتبعد مجرد كيلو مترين عن أهم شارع من شوراع العراق : طريق الموصل بغداد . مازالت القرية ( حتى 2006 ) تكتال مياه الشرب في الشتاء من بركة كبيرة تجاورها، يدعوها أهل الهرم(الخبرة !! ) الملآنة بدعاميص الضفادع وأنواع شتى من الحشرات ، يسخر أهل الهرم من تحذيرات المتعلمين من داعيمصها وحشراتها فيصفونها ساخرين: لحوم غير ضارة في مياه الطبخ والشرب ، ولا بأس من أكلها !"

وهنا يمكننا أن نستدعي خطابات السيرة الذاتية، إذ أن حضور صوت أنا الطفل المجنون، حضور قوي لصوت الذاكرة الطفل الذي عاش داخل مستنقع " ما تخيله" السارد في النص الروائي، ويمكن أيضا الإشارة الى صوت أبو الأبرد القشعام في نص "تراتيل الوأد" المقطع الحواري بامتياز لقدرته على تضمين خطابات ودفعها للحوار عبر مونولوج مفتوح لا ينتهي، لكن سمات هذا الخطاب تتقاطع الى حد كبير مع صوت الطفل المجنون "أنا" وكأن صوت أبو الأبرد تدرج لصوت الطفل ، أي أن صوت الطفل هو صوت أبو الأبرد في صباه، فأي لعبة يقترحها الزمن وفق هذا السياق؟؟؟؟.

البصرة كمكان تاريخ لجرح وطن، الحرب صيرورة مفتوحة لتراجيديا تاريخ وطن، الشخوص جميعهم خاضعون سلبيون وجه وطن خاضع محاصر، وتاريخ لمنطق الاستيلاب..بهذه التقابلات ينكشف توظيف المثن المقدم لسياقات التاريخ..

ورغم الإصرار على حصر هذا التوظيف بإشارات داخلية، إلا أن التوظيف الجلي يظل صوت السارد المركب في المثن بكامله وقدرته على استعادة هذا التاريخ الذي يراه في انذغام وانصهار مع تشظي هذه الذات التي تحكي أو تلك القائمة بفعله، أو الحاملة لصوته، سيان الأمر ما دام أن أفق هذا الميثاق السردي هو شعرية هذا التمظهر الدلالي لانكسارات هذا التاريخ.

إنها إحدى تلوينات هذه الكتابة السردية الكاشفة عن ما وسمناه بعنف المتخيل لكن في سيرورته عن ماضيه ومستقبله، إذ لا يراهن هذا العنف ميثاقه بأصل زمني بقدر تمدده كرؤية وكخطاب يبني سياقاته خارج قرينة آلية بمحدد زمني أو مرحلة تاريخية بعينها، هذا رغم ما تشي به بعض التقطيعات والمتواليات السردية من تمثل أنسب لمرحلة بعينها، لذلك نؤكد في خلاصة هذا الاستشكال الوظيفي، إذا كان انفتاح سؤال الكتابة الروائية عند جاسم الرصيف على خصوصية تفاعلها النصي ووظائفها الحكائية على مستويات متعددة أبرزها مقولة الاستعادة المتخيلة، فإن خصوصية تفاعلها النصي ووظائفها الحكائية على مستويات متعددة أبرزها مقولة الاستعادة المتخيلة، فإن انبناء أفق هذا السؤال يبتدع خطابات غير متطابقة، لا تجعل من الرواية والتاريخ خطابا واحدا وبالمفرد.

6-3/ البياضات وبلاغة الخطاب الروائي

· "ثلاثاء الأحزان السعيدة":

- " دخل من باب الجامع، في يده ساطور <...>، لامع، لامع، عيناه في عيني، راكضا نحوي، ليجذع أذني، لأنني <هارب>، مست يده رأسي، صرخت. ستة ستة

.............................................................................................................................................................................................

انفجعنا استيقظت راجفا. أصابعي على أذني. <أذني> <أذني>. كنت أصيح، خائفا ، وكان <...> يمسك كتفي. يتمتم دعاءاته همسا. < لا تخف> و < لا تخف> . وأنا لا أصدق . <...> أتلمس أذني. ظننت أن <نهاب القصاب> قد جدعهما. أنه ذبحني بساطوره اللامع، اللامع، الحاد.<...> الرجل العجوز. < لا تخف> يربت على كتفي بلطف. يحميني بدعاءاته، يعينيه العطوفتين. <...> الارتياح. الهدوء. سكت......................................................................................................................................................................................................................................................

خارج <بيت الله. طعام الفطور. وضعت أذني لصق سبحته الطويلة. باردة الحبات. <...> /ص92-93.

- " طائرات، ليست طائرات، في لغة السماء، الأرض، جبال النار تتساقط<...> الطائرات. مثل حرب <الكويت>، واليوم ثلاثاء لا . ليست ثلاثاء، ولكنها لا، معطف <...> <أبو حرب> وحده. مستورد، ثمين، ملقى على المكان الذي كان يجلس عليه، منفوخا <...> يضحك. من كلمات الرجل <القط>، ولا <أبو سلام> ولا <قط> ربما ذهبوا، مع <الدكتور> الى رحمة الله الواسعة، لا أدري إنها مثل خزائن الله....................................................

............................................................................................................................................................................ / ص134.

إن أهم ميزة لخاصيات الخطاب الروائي عند جاسم الرصيف هي قدرته على تحقيق انزياحات أساسية في تجربته الروائية، تجربة محكومة بتجاوز الميثاق السردي الكلاسيكي وقدرة لا محدودة على الحفر في مفهوم التجريب عبر تكسير لخطية وعمودية السرد مما ينعكس على كافة مكونات الخطاب الروائي.

ويقدم لنا نص "ثلاثاء الأحزان السعيدة" عبر مقطعه الحكائي "أنا" صوت الطفل المجنون تعددا في مستويات وصيغ هذا الخطاب، فالحذف ميزة رئيسية تتمثل في البياضات الواردة بشكل جلي داخل هذا المقطع الحكائي، إضافة لمستوى حضور الرؤية عبر خضوع اللغة لمنطق خاص يتماهى مع اللاعقلاني والحلم، إذ تحضر الجملة بصيغة أشبه بالثرثرة، محكومة بالقطع وببلاغة الصمت المعبر عنه بالبياضات، وحين يختزل السارد هذا المكون من خلال تنميط وتقعيد لهذا المستوى، فلأن بنية العجائبي تتمظهر كمكون دلالي إضافي قادر على ترسيخ إوالية الانزياح والخرق للخطاب.

مما يجعلنا أمام طابع غير مألوف يسهم في خلخلة قيم النص الجمالية، ويسهم من جهة ثانية في توطيد مشروعية خطاب التجربة الروائية لجاسم الرصيف ككل. ويتسع حجم حضور البياض كلما تدرج النص في بناء عالمه الخاص الى الحد الذي يتحول صوت الطفل " مج...نون" الى صوت جمعي / مفرد لكل رواة النص، بل إن هذه القصدية مباشرة في دفع النص الروائي الى الانفتاح، حتى في اتخاذ النص لضوابطه الداخلية القائمة على تسيير منطق الحكي وفق حالات بلاغة البياضات المقدمة هنا كحاملة لحذف القول.

وعكس باقي المقاطع الحكائية <ملاذ-الدكتور...> يتمظهر مقطع "أنا" بملامح تفكك الخطاب والقصة والشخصية المحورية التي تحكي عن الأم والجدة والتفاصيل المرتبطة بعنصر السرد باعتبار الطفل المجنون راوي وشاهد على تراجيديا ومأساة وضع أريد له أن يكون حافز مباشر للارتباطات التي تنتظم داخلها الحكاية الأساس.

يقدم نموذج "أنا" من نص "ثلاثاء الأحزان السعيدة" خصائص سيكولوجية من خلال مونولوج طويل لا ينتهي محكوم بالاضطراب واللاإنتظام، لايتناغم إلا مع خصائصه الداخلية، بل قادر على رسم وتحديد بوريتريه نفسي عبر وسيط السرد، ومكن منطق الانتهاك لتماسك النص عبر خلق بنى مجاورة تتميز بفراغات قادرة على تكثيف طرائقها، وخلق منظورها المخالف للكتابة، المعتاد منها الملأ، عبر تفجير لأنماط خاصة، تجعل القارئ يصطدم بطبيعتها وبمجرى الحكي داخلها. مما أفرز لنا خاصية تشابك وتوليد الخطاب الروائي في أفق جعل النص كيانا ديناميا قادرا على استثمار إمكانات بديلة وهو ما يجعل من النص الروائي مفتوحا على تعدد التأويل، بالتالي لن يكون النص الروائي إلا محكوما بوجهه الدلالي المكثف.

ولنا أن نتصور دلالة حضور "أنا" كعنوان لهذا المقطع الحكائي داخل النص علما أنها تتكرر في متون أخرى كنص "أبجدية الموت حبا" الموزعة بين خطابين <أنا وهي> لكن، خاصية أنا في نص "ثلاثاء الأحزان السعيدة" محكومة ببوليفونية محكمة ، فساردها مزدوج وخطابها لا يستجيب لتناغم لساني محدد، إذ ثمة توظيف لكتابة هي استجابة لمونولوج استيهامي محكوم باللامنطق.

فالجنون يتلبس اللغة والخطاب، واقتراح هذه الصيغة الخطابية لا ينفي قدرة هذا المقطع الحكائي على تسيير الميثاق السردي داخل النص الروائي، إنها إحدى بلاغات رؤى التجريب في قدرتها على تكسير انتظام النص وفق خطية محكومة بإيقاعها الخاص.

ولعلنا نتساءل عن هوية السارد داخل المقطع الحكائي كحامل لمقولة تأطير الخطاب وتنظيمه، إذ يكشف عن تعدد لرؤى تسهم في إعطاء النص توالدا سرديا مميزا. ويسعف هذا المقطع الحكائي في تمثل علاقة جوهرية بين السارد والحكاية فنص "أنا" كنموذج يمثل موقفا للروائي إذ أن جعل الحكاية تروى من خلال إحدى الشخصيات يغطي نمطا غالبا عبره نكشف صيغة حضور السارد في المتن المذكور.

وتعتبر هذه العلاقة ثابتة بضمير المتكلم لكنها ترشدنا الى وضعين مختلفين:

** تمظهر السارد كحامل لمقول الحكي.

** تطابقه مع إحدى شخصياته ؛<وهو هنا الطفل المجنون>.

وقد يتمظهر هذا الحضور بتقنية تناوبية إذ يتغير من أنا الى هي، ومن شخصية الى أخرى، مما يقدم لنا معطى إضافي حول بلاغة تموقع السارد من الزمن والحكاية، إذ لا تسمو الوظيفة السردية على بلاغة التخييل، ما دام السارد يكشف بوضعه الزئبقي عن رهانات إضافية إن لم نقل عن وظائف سردية بالمتعدد.

ولا يمكننا تأطير تحديد نهائي كلي لهذا الحضور ما دام السارد يتلبس صيغ حسب حالات وضعه السردي، إذ أن حضور خطابات تجاورية وتناوبية أسهم في تلبس السارد لأوضاع مخلة بالانتظام، بالتالي بهذه الخطابات. ويتوازى هذا المنحى البوليفوني مع الصيغ والرؤى السردية، فحتى أكثر النصوص كشفا لحصر السارد العالم وتموقعه كما في نص "أبجدية الموت حبا" يمارس السارد وظيفتين أساسيتين عبر مقطعين حكائيين "أنا" و"هي" لكن داخلالمقطع الحكائي "هي" يتلبس السارد أوضاعا متعددة من <المرأة الى المكان، ...> مما يضفي طابعا حواريا على هذا الحضور، الفاعل.

إن إصرار السارد على تلبيس خطابات تتداخل مع الخطاب الأساس يزيد من تعدد هذا الصوت الحواري بامتياز، من الحكاية الى النص السردي وصولا الى الوضع السردي. لكن ميزة هذا الصوت في المقطع الحكائي "أنا" / لنص "ثلاثاء الأحزان السعيد" هو قدرته على حضور ازدواجي فهو الموجه للحكي وفي نفس الوقت صوت إحدى شخصياته لكنه أيضا صيغة سيكولوجية تقدم تمظهرات نفسية إن لم نقل صوت نفسي داخلي.

وطبيعة هذا الحضور تعمق من جدلية خاصية خطابية وسمناها ببلاغة التخييل إذ تسهم هذه العلاقة الغير تقليدية في جعل الخطاب الروائي أكثر دينامية وفاعلية ومفتوحا على التأويل، فيضيع حضور السارد ووظائفه وتحرره داخل هذا البناء العام، نابع من الطابع التخييلي الذي تبنيه النصوص في علاقتها بمرجع "بديهي" منتج للخطاب السردي.



على سبيل الختم

لقد ظهر المثن/النموذج للدراسة في مرحلة تاريخية متقاربة تمتد من نهاية ألفية الى بداية أخرى جديدة، مرحلة مسكونة بإشكاليات الخطاب الروائي العربي المسكون بأسئلته الجديدة. ورغم هذا التقارب الزمني، فإن المثن المذكور للروائي جاسم الرصيف يقترح صيغه الخطابية ومنظوره للتحول من باب الممارسة النصية والتراكم والمنجز النصي، كما تقترحها النصوص وكما يقترحها المنجز النصي في رؤاه، وجلي أن ينعكس هذا المنحى على تمظهرات كافة مكونات الخطاب الروائي لكن ، أهم ما تقترحه هو خاصية شعرية المتخيل بما هي صيغ مفتوحة على طرائق الكتابة الروائية الحداثية حيث لا صيغة مفردة للخطاب، بقدر ما ينفتح النص على كليته، وعلى عالمه، يحفر خلاله معماره الجديد.إضافة الى ملمح أساسي في تقنيات توظيف لمفهوم التلفظ، والذي أمسى لا يقتصر على ما يقدم الراوي من أفعال قولية، وإنما مشمول أقوال الشخصيات التي تحضر بقوة أثناء التلفظ.. كدا انتقالات التوالي السردي الى توليديات حكائية تحقق مستويات إضافية لقوة متخيل النصوص.

إن مكونات هذا التحول نابعة من هذا المنجز، منجز خصائصه هي نفسها خصائص الخطاب، بتداخل خطاباته، بمفارقاته الزمنية، بلاترابطات مادة الحكي، بتجاور وتناوبه السردي، بتداخل رواته، بآلية جديدة لتذويت حيث الذات/الشاهد، الذي يترك العالم بمفارقاته قادرا على تخصيب هذا التشظي المعلن.

وداخل هذه العوالم المأساوية حيث ينكشف الحصار والقتل والحرب، ترسم هذه الذوات المهزومة والمشلولة سيرها من خلال شخوص تموت لترفع راية شهادتها معلنة مأساوية المشهد في كامل مفارقاته وبؤسه، ويسعفنا مثن جاسم الرصيف الروائي في استخدامه لآليات سردية جديدة من تلمس وضع هذا المشهد الذي استثمر الذاكرة في رحلة قصية بمنفاه <أمريكا> كي يقدم نصوصا تستعير الذات كحامل لهذه الصيغ التخييلية، أملا في انعتاق وطن يجدد تراجيدياته، وصوره المأساوية وفظاعة الكائن، وهيولات الايديولوجيا، وطن تاريخ للشهادة، وذاكرة مثخنة مفتوحة على عنف المتخيل، ولعل الإقامة في اللغة الروائية وفي عوالمها إحدى تجليات وصيغ التحول لهذه الذاكرة المبتورة قسريا.

لكن للنصوص قداسها أيضا فهي تستعيد أجساد الشهداء كي يرقصوا رقصتهم الأخيرة، وفي ذالك أفق ممكن للحياة..

ملحقات


ملحق 1:

رواية ممنوعة بشعرية الخوف

صدر للروائي العراقي جاسم الرصيف (روائي عراقي مقيم في أمريكا) رواية بعنوان "مزاغل الخوف" في طبعة أولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، وتأتي هذه الرواية التي تقع في 358 صفحة لتتم مشروع جاسم الرصيف الروائي الذي بدأ بروايته "الفصيل الثالث" (1) ." رواية مزاغل الخوف هي عن أرض "خارجة عن القانون" في واقع الحال العراقي في الفترة المحصورة بين نهاية حرب الخليج الأولى 1980 -1988 وحرب الخليج الثانية 1991، وبشر مطارد في زمن يتناهبه القراد، عن وطن "يمشي على قدمين متعاديتين" .

بهذا التذييل يقدم الروائي جاسم الرصيف روايته مزاغل الخوف وهي عتبة دالة لولوج نص روائي ظل كاتبه وفيا في تنظيم بنائه بشكل تتوازى فيه أصوات السارد المتعددة والتي تحكي عن وطن مأساوي الملمح والرؤية ، من خلال وجه مصغر للوطن وهو هنا : الثالولة، حي التنك ، بتاريخ "يشبه رمالا صحراوية ، جافة ، ساخنة .. فلا أحد في الثالولة قادرا على وقف لعنة الكوارث" خصوصا في أرض "خارجة عن القانون" وفي هذه الأرض ، تقدم "مزاغل الخوف" مشهدا سورياليا لمأساة وطن ، تصل إباحيته المرة لدرجة التعفن ، وهي سير لوحدات مجتمعة ، تبني لشخوصها بعدا تنكشف مراتبه في تدرج خطي يتنامى ، فشخصية ستار عجقة ، وونسة خباثة، والشيخ بعيو وآخرون شخوص يعمقون بمحكياتهم لعبة الدوال في مزاغل الخوف بشكل نجد فيه أنفسنا أمام نص روائي يحتمل نصوصا موازية داخله ، إذ ثمة تنظيم واعي للعبة الحكي في الرواية ، وحضور عناوين معزولة لا تربط سارد/1 بسارد/2 تجعل من هذه التقنية التي وظفها جاسم الرصيف في رواياته السابقة نمطا خاصا بكتابات الروائي ، وخصوصية روائية انشطارية عن نص روائي حاضر بقوة.

إن العالم التخييلي الذي يقترحه نص مزاغل الخوف يولد أفعالا روائية تنتظم في انشطارها إلى حكايات تنمو بتوازي وصولا إلى انذغامها الكلي في حكاية واحدة هي الأساس لنحصل على ترسيمة تالية :

الثالولة ، حي التنك : حكاية ستار عجقة + حكاية ونسة خباثة + حكاية أنا + حكاية الشيخ بعيو..

تنتهي الرواية بجملة سردية أساسية : "انطفأت كل الفوانيس النفطية في حي التنك المقابل للقصر مساء "أول" جمعة صادفت احتلال الكويت" ، إن هذه الإشارة السردية هي بنية ينهض على خلفايتها النص الروائي ككل ، إذ يقدم السارد عمله الروائي وفق تزاوج العديد من البنيات الحكائية الصغرى والتي تقدم المشهد العراقي في مأساويته لحظة بلحظة في أرض تدخل وتخرج في حروب متوالية ، فأساس هذا العالم الغني الواسع الدلالات والمشبع بلغة جنسية تتوالد بقوة .

وكرواية السؤال لغالب هلسا تخفي اللغة الجنسية التي تصل إلى حدود إيروتيكية فاضحة ، وضع الاستيلاب والقمع الممارس على أجساد شخوص تخفي خلال هذا الكبت ، والممارسات الفاضحة جزء من وسخ الواقع المر ، الذين يعيشونه ، أما الروائي جاسم الرصيف فيقدم تصورا مختلفا إذ يفضح عراء عالم في تحرره السري والفاضح وحتى اللحظات التي يعلن فيها السارد الإله مستويات هذا التخييل والذي نراه خصوصية في أعمال جاسم الرصيف ، إذ أن اللغة الجنسية والمقاطع السريرية المطروحة هكذا في تناسق دلالي واضح هي جزء من عالم نفسي لنص موازي يتوافق مع بنية العمل الروائي ، فمزاغل الخوف هي صرخة مباشرة لفضح هذه الإباحية السياسية والثقافية والفكرية في مجتمعات ظلت تمارس عاداتها السرية دون الرغبة في التصريح، ولعل إصرار السلطات الأردنية على مصادرة الرواية بعذر أنها "إباحية" تطرح أكثر من سؤال لأن عمقها راجع لهذا الأساس ، أكثر من ثيمتها "محاولة اغتيال حقيقية جرت ضد صدام حسين أثناء احتفالات عيد الجيش العراقي في 6 كانون الثاني 1991 والتي حضرها الملك حسين وحسني مبارك وعلي عبدالله صالح ، إذ خطّط قائد العملية النقيب سطم الجبوري من أهالي قضاء الشرقاط / جنوب الموصل مع جماعته لتغيير أربعة أنظمة عربية في آن وذلك بنسف منصّة الإستعراض بمن فيها، ولكن محاولته انكشفت في اللحظات الأخيرة قبل تنفيذها فأعدم المذكور مع جماعته ومنهم القاص والروائي حسن مطلك / كاتب رواية ( دابادا ) والحكم بالسجن المؤبد على القاص المعروف محمود جنداري ، الذي توفي بعد أسابيع من إطلاق سراحه بموجب عفو عام عن السجناء السياسيين !! وعلى هامش هذه المحاولة تم طرد أعداد كبيرة جدّاً من أبناء العشيرة التي ينتمي إليها النقيب سطم الجبوري ، ووضع المشتبه في ولائهم تحت المراقبة ومنهم الشخصية الرئيسية في الرواية الذي اعتقل بعد ذلك ونال أصنافا شتى من التعذيب !! وفي سياق السرد ورد وصف لتشبث صدام حسين بالانتماء إلى (سادة العرب) من (بني هاشم) وهذا ما أغاض السلطات الأردنية كما يبدو !!" (2).

إن البناء العميق الذي تنهض عليه مزاغل الخوف هو كشف هذا الوجه البشع للسلطة وتمركزها كحمولة إيديولوجية تؤسس بقيم الترهيب والتعسف وديكتاتورية بشعة أوجه آلية مغيبة لا أوجه المواطنة ، إن العمق التخييلي لرواية مزاغل الخوف مادة حية ، مميزة في متغيرها كبنية ونسق ، وكحمولة معرفية تؤسس مفارقات الدلالة والمعنى عبر اللعب على توظيف أرض عبارة عن وطن مصغر هو حي التنك ، وهي وحدة تتفرع منها وحدات فرعية حكائية لشخوص تواجه الخوف.. الخوف فقط ، وهو المجسم الوحيد الأساسي للدلالة .

وبعيدا عن هذا الفعل الحفري ، يتجه نص مزاغل الخوف في اتجاه استكمال مشروع روائي بدأ برواية الفصيل الثالث ، ، ولا زال يبني أفقه الروائي ، ويقدم هذا المتن حمولات كافية لإعادة قراءة راهن العراق ليس كجغرافية ولا كأيديولوجية ولا كشعارات سياسية ، إذ ثمة احتفاء بالعمق الإنساني الثاوي في خلفية التناول السردي للمحكي وثمة بنية عميقة مضمرة تحفر عميقا لتولد نصوصا تفضح الوجه البشع للسلطة لكنها سلطة فكرية أساسا بحمولاتها التي تتفرع من السياسي إلى الإنساني .

رواية مزاغل الخوف رواية تعيد سؤال الوعي بسيرة كتابة الحظر والمنع ، وهي إحدى أشكال كتابات المنفى في صياغاتها الإشكالية ، لتؤسس بوعي جديد أفق يتداخل التخييلي فيه على المستوى الحكائي بتأويل الاستعادة والاسترجاع ، ولعل خصوبة النص النقدي في استجلاء وعي الكتابة ، وتشريح للمادة الحكائية كفيل بتقديم معالم هذا الحس التخييلي المؤطر لشعرية الخوف.


ملحق 2:

مي أحمد < كاتبة من العراق>

– موقع الحوار المتمدن-

" ولد جاسم الرصيف في قرية ( الهرم ) التابعة لناحية ( حمام العليل ) من محافظة نينوى ، ثم انتقلت عائلته الى (الموصل )، بسبب شح ألأمطار وضآلة محاصيل الحنطة والشعير التي أدمن زراعتها أبوه عن جده عن أبيه ، ودخل جاسم المدرسة حتى تخرج من الثانوية. و كان طالبا غاية في المشاكسات مع المدرسين وحتى الطلاب ، ربما لأنه ألإبن المدلل كونه الذكر الوحيد من بين خمس أخوات أصغر منه، وربما لأسباب أخرى قد يمر ذكرها لاحقا ..لم تنقطع علاقتهم بالقرية قط ، ولحد ألآن ، وهذه القرية التي تبعد عن ( الموصل ) ثلاثين كيلومترا في أبعد بيوتها عن المدينة ، وتبعد مجرد كيلو مترين عن أهم شارع من شوراع العراق : طريق الموصل ــ بغداد . مازالت القرية ( حتى 2006 ) تكتال مياه الشرب في الشتاء من بركة كبيرة تجاورها ، يدعوها أهل الهرم ( الخبرة !! ) الملآنة بدعاميص الضفادع وأنواع شتى من الحشرات ، يسخر أهل الهرم من تحذيرات المتعلمين من داعيمصها وحشراتها فيصفونها ساخرين : لحوم غير ضارة في مياه الطبخ والشرب ، ولا بأس من أكلها ! .ينتمي جاسم الرصيف الى عشيرة ( السادة البوبدران ) الذين يعودون في نسبهم إلى ( بني هاشم ) ، وهذه العشيرة تمتد من شمال محافظة نينوى إلى سامراء والبصرة جنوبا وإلى دير الزور والرقة والحسكة ودمشق في سوريا غربا وألأردن والسعودية ودول الخليج العربي ألأخرى . كان جده ( خلف حسين عبد الله الرصيف البدراني ) قد نال إرثا من ذويه في دير الزور مما يؤكد لي أنهم قدموا من هناك الى العراق قبل ( سايكس ــ بيكو ) يوم كانت الأرض العربية لمن يسكنها أيا كان ، كما أن جده وعمه ألأكبر محمود ووالده قد ذهبوا لزيارة أقاربهم في دير الزور عشرات المرات على ظهور الخيل . من أبرز ما علمته العائلة ( الرصيف ) لابنها جاسم ، حب الصيد والرماية . الشجاعة من أشهر ما هو معروف عن عائلة جاسم ، ولذلك تحاشت العوائل ألأخرى المشاكل معهم ، بعد أن أسس (خلف الرصيف ) للعائلة إرثا عريضا في هذا المجال مذ كان شابا أيام العهد العثماني وضربت المجاعة قرانا في الموصل فترة طويلة فراح ( خلف الرصيف ) يغير على ثكنات الجندرمة ألأتراك ويسرق من مخازنها الطعام لعائلته وعوائل أولاد عمه في نفس الوقت ، وقد خاض عدة معارك مع الجندرمة التركية بسبب سطواته تلك ، خاصة وأن رجالا آخرين من أولاد عمومته قد إنضموا إليه ، فصدرت بحقه ثلاثة أحكام بالاعدام لم يعرها بالا وهو يردد ، ومازلت أتذكر ذلك عنه : مادمت طير برية فلن أخاف أحدا غير الله !!"

ملحق 3:

جاسم محمد خلف الرصيف مواليد الموصل . العراق 1950روائي عراقي صدرت له الروايات التالية:

* الفصيل الثالث - الجزء الأول 1983.

* الفصيل الثالث -الجزء الثاني 1983.

* القعر ، من جزأين في مجلد واحد 1985.

* خط أحمر 1987 الطبعة ألأولى / بغداد ، 2000 الطبعة الثانية المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

* حجابات الجحيم 1988 الطبعة ألأولى بغداد ، 2000 الطبعة الثانية- المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

* أبجدية الموت حبّاَ 1990 الطبعة ألأولى / بغداد ، 2000 الطبعة الثانية / المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

* تراتيل ألوأد 1992 الطبعة ألأولى / بغداد ، 2000 و 2004 الطبعة الثانية والثالثة / نفس الدار .

* ثلاثاء ألأحزان السعيدة 2000 الطبعة ألأولى 2004 الطبعة ألأولى والثانية / نفس الدار.

* مزاغل الخوف 2004 الطبعة ألأولى / نفس الدار.الناشر : دار الشؤون الثقافية بغداد والمؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ـ عمان.
الجوائز
* جائزة الدولة 1983 عن رواية الفصيل الثالث
* جائزة أفضل رواية عراقية 1987 عن رواية خط أحمر
* جائزة الدولة 1988 عن رواية حجابات الجحيم
* جائزة الدولة 1989 عن رواية أبجدية الموت حباَ ، وقد حجبت الجائزة بأمر من وزير الثقافة والإعلام وأمر بتأخير طبعها.
* جائزة الدولة 1992 عن رواية ترتيل الوأد .
- درست رواياته في الجامعات العراقية حتى سنة إعتقاله 1994 وتدرس ألآن في جامعتي محمد الخامس والقاضي عياض في المملكة المغربية على يد الأستاذة لطيفة حليم أستاذة الأدب العربي في هاتين الجامعتين .

- تتناول روايات جاسم الرصيف ألتأريخ الساخن للعراق أثناء الحرب العراقية ألأيرانية - 1980 -1988- وحرب العراق الكويت ( 1991) وهو ما اصطلح عليه بحرب الخليج الأولى وحرب الخليج الثانية ، من حيث تأثيرهما المأساوي على مستويات الحياة الفردية والجماعية بمعزل مطلق عن تأثيرات الشعارات التي سادت أثناء تلكما الحربين.

...................................................................
- عضو منتخب في المجلس المركزي لإتحاد ألأدباء والكتاب العراقيين لدورتين انتخابيتين 1990-1994
- رئيس منتخب لإتحاد الأدباء والكتاب في محافظة نينوى –الموصل- 1994 وحتى يوم إعتقاله

-طرد من عضوية حزب البعث العربي الإشتراكي 1994 لتهجمه وتحريضه ضد الممارسات الخاطئة للحزب والدولة .

وله مقالة أسبوعية ف: يكتب مقالة أسبوعية في جريدة ( الإتجاه ألآخر) العراقية تحت عنوان ( بعيدا عن ،،، قريبا من ،،، ) منذ 2001.

- جريدة الزمان اللندنية تحت عنوان ( زمان جديد ) على الصفحة ألأخيرة .

المراجع:

1- "خط أحمر" 1987 الطبعة ألأولى / بغداد ، 2000 الطبعة الثانية المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

2- حجابات الجحيم 1988 الطبعة ألأولى بغداد ، 2000 الطبعة الثانية- المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

3- أبجدية الموت حبّاَ 1990 الطبعة ألأولى / بغداد ، 2000 الطبعة الثانية / المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

4- تراتيل ألوأد 1992 الطبعة ألأولى / بغداد ، 2000 و 2004 الطبعة الثانية والثالثة / نفس الدار .

5- ثلاثاء ألأحزان السعيدة 2000 الطبعة ألأولى 2004 الطبعة ألأولى والثانية / نفس الدار.

6- مزاغل الخوف 2004 الطبعة ألأولى / نفس الدار.الناشر : دار الشؤون الثقافية بغداد والمؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ـ عمان.
7- سعيد يقطين "القراءة والتجربة" سلسلة دراسات نقدية<4>ـدار الثقافة – ط1/1985، المغرب.

8- حسن المودن "الكتابة والتحول" منشورات اتحاد كتاب المغرب-ط1/2001.

9- جيرار جينيت "خطاب الحكاية" ت/محمد معتصم،عمر حلي، عبدالجليل الأزدي-مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء/المغرب-ط1/1996.

10- عبدالعزيز حمودة "الخروج من التيه" عالم المعرفة، عدد298/نوفمبر2003-الكويت.

11- كريستيفا "علم النص"، ت/فريد الزاهي- دار توبقال للنشر /المغرب، ط1/1991.

12- سعيد يقطين "تحليل الخطاب الروائي" المركز الثقافي العربي،ط1/1989. بيروت-الدارالبيضاء.

13- يمنى العيد" في معرفة النص" دار الآفاق الجديدة- ط1/1983.بيروت.

14- حسن المودن" لاوعي النص في روايات الطيب صالح" الوراقة الوطنية بمراكش-المغرب.ط1/2002.

15- أحمد المديني "في أصول الخطاب النقدي"عيون المقالات- الدارالبيضاء/المغرب، ط2/1989.

16- فولفغانغ إيزر "فعل القراءة"، ت/حميد لحمداني، الجيلالي الكدية، مكتبة المناهل، مطبعة النجاح الجديدة- الدارالبيضاء- ط1/1995.

17- الملحق الثقافية لجريدة الاتحاد الاشتراكي- العلم: في إطار سلسلة دراسات حول علاقة الرواية والتاريخ.

الفهرس

1- الإهداء .....................................................................2

2- توطئة.......................................................................3

3- حكايات الحرب والحياة..................................................9

4- شعرية الحرب...........................................................16

4-1/ خط أحمر : مجازات الدوال...................................17

4-2/ حجابات الجحيم: عراء النكسة.................................24

4-3/ أبجدية الموت حبا: مسارات المحو...........................30

5- عنف المتخيل..............................................................39

5-1/ تراتيل الوأد: بلاغة الخواء.....................................40

5-2/ ثلاثاء الأحزان السعيدة: لعنة اللاعودة.......................46

6- خاصيات الخطاب الروائي..............................................51

6-1/ دينامية النص وسؤال التجريب................................52

6-2/ شعرية الحرب ومفارقات التاريخ.............................62

6-3/ البياضات وبلاغة الخطاب.....................................71

7- على سبيل الختم ..........................................................78

8- ملحقات ....................................................................81

9- المراجع....................................................................90

10- الفهرس...................................................................92

عبدالحق ميفراني

شاعر وناقد من المغرب

عضو اتحاد كتاب المغرب.

أمين فرع اتحاد كتاب المغرب بمدينة اسفي.

عضو اتحاد كتاب الانترنيت العرب.

عضو < سابق > بجمعية نقاد السينما بالمغرب.

كاتب وصحفي متعاون مع جريدة الوطن القطرية. وجريدة الأديب العراقية المتخصصة .

العنوان : ص – ب: 728

مدينة اسفي 46000

المغرب

الهاتف: 0021267354375